خصائص القضاء الإداري.
قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر بتاريخ 2/6/1956 بأن: " روابط القانون الخاص تختلف في طبيعتها عن روابط القانون العام، وإن قواعد القانون المدني قد وضعت لتحكم روابط القانون الخاص، ولا تطبق وجوباً على روابط القانون العام، إلا إذا وجد نص يقضي بذلك، فإن لم يوجد فلا يلتزم القضاء الإداري بتطبيق القواعد المدنية حتماً وكما هي، وإنما تكون له حريته واستقلاله في ابتداع الحلول المناسبة للروابط القانونية التي تنشأ في مجال القانون العام بين الإدارة في قيامها على المرافق العامة وبين الأفراد، فله أن يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها وله أن يطرحها إذا كانت غير متلائمة معها، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم، ومن هنا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد، ويتميز القضاء الإداري عن القضاء المدني في أنه ليس مجرد قضاء تطبيقي مهمته تطبيق نصوص مقننة مقدماً بل هو على الأغلب قضاء إنشائي لا مندوحة له من خلق الحل المناسب، وبهذا أرسى القواعد لنظام قانوني قائم بذاته ينبثق من طبيعة روابط القانون العام واحتياجات المرافق العامة ومقتضيات حسن سيرها وإيجاد مركز التوازن والمواءمة بين ذلك وبين المصالح الفردية....." [1].

ومن هذا الحكم فإنه يمكن استخلاص خصائص القضاء الإداري والتي تتمثل في أنه قضاء رقابة مشروعية لا مواءمة، قضاء إنشائي، وقضاء متخصص، وذلك على النحو التالي:
أولاً: قضاء رقابة مشروعية لا ملاءمة:
إن المقصود بالمشروعية هو مطابقة القانون، وهي تقوم على أساس وجود قواعد صارمة تلتزم الإدارة باحترامها ومراعاتها في تصرفاتها، فهي تفرض على الإدارة قيوداً لصالح الأفراد[2].

ولقد عرّف الدكتور محمود حافظ في مؤلفه (القضاء الإداري) مبدأ الشرعية تعريفاً بسيطاً ومختصراً وهو: " يقصد بمبدأ الشرعية ، مبدأ الخضوع للقانون"، كما عرّفه الدكتور سليمان الطماوي في كتابه (القضاء الإداري) بأنه: " سيادة حكم القانون"[3].

ورقابة القضاء الإداري رقابة مشروعية تمتد إلى التصرفات المقيدة للإدارة لأن الاختصاصات المقيدة يجب أن تكون وفقاً للنطاق القانوني الذي رسمه لها المشرع سواء كان ذلك بموجب تشريعات مدونة أو غير مدونة[4].

والرأي الراجح فقهاً وقضاءً حدد معنى التزام الإدارة بمبدأ المشروعية فيما يلي:
1-   إذا حدد القانون للإدارة عملاً محدداً يجب عليها القيام به في ظروف معينة فإنه يجب عليها القيام به عند توافر تلك الظروف، فإذا قامت بعمل آخر غيره كان عملها غير مشروع.
2-   إذا حدد القانون للإدارة عملاً محدداً يجب عليها القيام به في ظروف معينة فإنها يجب عليها القيام به إذا ما توافرت تلك الظروف، فإذا سكتت الإدارة  عن القيام بذلك العمل، كان تصرفها سلبي وغير مشروع.
3-   إذا لم يحدد القانون للإدارة عملاً معيناً، يجب عليها القيام به في ظروف معينة، فإن للإدارة الحرية في اختيار العمل الذي تراه ملائماً للظروف القائمة بشرط ألا يخالف ذلك العمل القانون بمعناه الواسع.
4-   إذا لم يحدد القانون للإدارة عملاً محدداً يجب عليها القيام به فإن الإدارة يكون لها السلطة التقديرية في القيام بعمل لمواجهة تلك الظروف أو عدم القيام بعمل وذلك انطلاقاً من سلطتها التقديرية في التدخل أو عدم التدخل، وتخضع تلك السلطة في هذه الحالة لرقابة القضاء لضمان عدم إساءة استخدام الإدارة لسلطتها[5].

وعليه فإن ملاءمة التصرفات ترتبط بتصرفات الإدارة غير المقيدة (التقديرية)، بحيث لا يمتد إليها رقابة القضاء الإداري إلا في نطاق محدود وهو عدم الانحراف بهذه التصرفات عن الهدف المرسوم[6].

ويقر الفقه والقضاء، وكذلك المشرع للإدارة ببعض الامتيازات التي تستهدف موازنة مبدأ المشروعية، بمنح الإدارة قدراً من الحرية يتفاوت ضيقاً واتساعاً بحسب الظروف، وقد تبلورت هذه الامتيازات في ثلاث صور هي:
1-      السلطة التقديرية: فالسلطة التقديرية مرادفة للحرية التي تتمتع بها الإدارة في مواجهة كل من الفرد والقضاء لتختار وقت تدخلها ووسيلة التدخل وتقدير خطورة بعض الحالات[7].

فلا يملك الأفراد من جانبهم إجبار الإدارة على ممارسة اختصاص تقديري، وإنما كل ما يملكونه هو أن يتقدموا إلى الإدارة بطلباتهم وتترخص الإدارة – بمطلق حريتها – في إجابة طلباتهم أو رفضها طبقاً لما يتراءى لها من دواعي الصالح العام. وهذا بعكس الوضع بالنسبة للاختصاصات المقيدة إذ تلتزم الإدارة بإجابة طلبات الأفراد متى استوفوا الشروط التي يتطلبها المشرع[8].

2-      سلطات الحرب والظروف الاستثنائية: وهي ظروف تؤدي إلى توسيع نطاق قواعد المشروعية العادية، بحيث تصبح التصرفات غير المشروعة في الأوقات العادية تصرفات مشروعة في الظروف الاستثنائية.

3-أعمال الحكومة أو السيادة: وهي أخطر امتيازات الإدارة، لأنها تخولها إصدار قرارات إدارية لا تُسأل عنها أمام أي جهة قضائية، وهي تمثل ثغرة في نطاق المشروعية[9].

وعليه فإن الإدارة تمارس نشاطها باتباع أسلوبين:
الأٍسلوب الأول: تمارس اختصاصاً مقيداً يحدد فيه المشرع الشروط اللازمة لاتخاذ قراراها مقدماً، وتخضع لسلطة القضاء الإداري.
والأسلوب الثاني: يتمثل بممارسة الإدارة اختصاصاً تقديرياً، بحيث لا تخضع الإدارة لسلطة القضاء الإداري، إذ يترك المشرع لها حرية اختيار وقت وأسلوب التدخل في إصدار قراراتها تبعاً للظروف ومن دون أن تخضع للرقابة. فالمشرع يكتفي بوضع القاعدة العامة التي تتصف بالمرونة تاركاً للإدارة تقدير ملائمة التصرف، شريطة أن تتوخى الصالح العام في أي عمل تقوم به وأن لا تنحرف عن هذه الغاية وإلا كان عملها مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة[10].

ولا تعارض بين السلطة التقديرية للإدارة في مواءمة التصرفات، ومبدأ المشروعية، حيث يحد هذا المبدأ من السلطة المطلقة للإدارة. ويعلق المستشار (Braibant) بقوله: " أن هذه الرقابة القضائية التي بدأ يمارسها مجلس الدولة على الإدارة العاملة، هدفها أن تفرض قدراً أقل من المنطق، وحسن التقدير على رجال الإدارة، فإذا كان في وسعهم أن يختاروا فليس معنى ذلك أن يفعلوا ما يشاؤون"[11] 

ومع ذلك فقد أخضع مجلس الدولة الفرنسي الإدارة في ممارستها للسلطة التقديرية لرقابته في بعض الحالات، لا على أساس الحكم على الظروف الخارجية التي تم التقدير في خلالها ولكن على أساس مراقبة التقدير ذاته مما يتنافى مع جوهر السلطة التقديرية، وهو ما حدا ببعض الفقهاء إلى القول بأن القضاء الإداري قضاء ملاءمة أيضاً، وهو يمارس اختصاصات رئاسية على الإدارة بحكم نشأته الأولى ورغم انتقاد كثيرين لهذا المسلك إلا أن مجلس الدولة الفرنسي مضى فيه إلى مجالات متعددة أشهرها المجال التأديبي، ورقابة الموازنة بين المنافع والأضرار[12].

ثانياً: قضاء إنشائـي حــر:
القضاء الإداري ليس مجرد قضاء تطبيقي، وإنما هو في المقام الأول قضاء إنشائي، فالقاضي الإداري وهو ينظر المنازعات الإدارية يجد نفسه أمام عجز ونقص وقصور تشريعي، فإذا لم يجد النص الذي ينطبق على النزاع المطروح أمامه، يتولى بنفسه إنشاء المبادئ العامة للقانون الإداري كما يتولى استنباط الحكم القانوني الواجب التطبيق على النزاع المعروض دون تقيد بأية قواعد أو تشريعات أخرى، فلا يقتصر دوره على مجرد تطبيق وتفسير القانون كنظرة القضاء العادي، لكنه يمارس دوراً إنشائياً واضحاً وبذلك يعدّ القضاء الإداري مصدراً رسمياً للقانون الإداري. حيث يبتدع الحلول لما يعرض عليه من منازعات بين جهات الإدارة والأفراد[13]. فالقاضي يحاول إيجاد التوازن بين احتياجات المرافق العامة، والمصالح الخاصة، متأثراً بالظروف العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وهو ما يطلق عليه البعض(السياسة القضائية).

أما أنه قضاء حــر فهو وفقاً لما جاء في حكم المحكمة الإدارية العليا المشار إليه أعلاه فهو: " ..... يطبق من القواعد المدنية ما يتلاءم معها وله أن يطرحها إذا كانت غير متلائمة معها، وله أن يطورها بما يحقق هذا التلاؤم، ومن هنا يفترق القانون الإداري عن القانون المدني في أنه غير مقنن حتى يكون متطوراً غير جامد ...." .
أي أنه قضاء حر في تطبيق القواعد التي يراها ملاءمة ومناسبة دون تقيد بقاعدة معينة أو قانون معين ووفقاً لكل حالة على حدة.

ثالثاً: قضـاء متخصـص:
أي يختص بممارسة الرقابة على أعمال الإدارة لحماية حقوق وحريات الأفراد في مواجهة تعسف الإدارة، ويؤدي بالإدارة إلى التأني والحذر في تصرفاتها لتتأكد من مطابقتها للقانون, وقد حمل القضاء الإداري على كاهله هذه المهمة. فالقاضي الإداري له وضع خاص ومتميز في مواجهة القانون والإدارة والأفراد، وهو ما يتطلب أو يستلزم تخصصه في الفصل في الدعاوى الإدارية واستقلاله عن جهة القضاء العادي, وإعداده الإعداد القانوني الجيد حتى يقوم بالدور المهم الذي يوكل إليه[14].

وعليه فإن القضاء الإداري يختص بالمنازعات المتصلة بسلطة الإدارة فهو قضاء للإدارة بالمعنى الاصطلاحي لهذا اللفظ، وعليه يخرج عن اختصاصه ما يلي:
1.    المنازعات بين أشخاص القانون الخاص: سواء تعلق النزاع بأشخاص طبيعيين أو أشخاص معنوية، وأياً كانت صلة الإدارة بهذه الأشخاص الخاصة، وكذلك منازعات المؤسسات الخاصة ذات النفع العام.
2.    المنازعات المتعلقة بالسلطة التشريعية: حيث تعد من قبيل أعمال السيادة أو الحكومة الخارجة عن نطاق كل رقابة، كالنشاط التشريعي للبرلمان (كإصدار القوانين واللوائح الداخلية للمجلس، وما يتصل بالاستفتاء على القوانين) والأعمال البرلمانية (كالإجراءات الصادرة من السلطات الإدارية للبرلمان كالرئيس والسكرتارية).
3.    المنازعات المتعلقة بسير القضاء[15].


[1]  سليمان محمد الطماوي، القضاء الإداري، الكتاب الأول (قضاء الإلغاء)، دار الفكر العربي سنة 1967، ص29-30.
[2]  سليمان محمد الطماوي، الوجيز في القضاء الإداري، دراسة مقارنة، مطبعة جامعة عين شمس، الطبعة 1982، ص18.
[3]  محمد بطي ثاني الشامسي، الرقابة على أعمال الإدارة، أكاديمية شرطة دبي (كلية القانون وعلوم الشرطة)، طبعة 2008، ص15-16.
[4] حمد عمر حمد، السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الطبعة الأولى الرياض، طبعة 2003، ص156.
[5] محمد بطي ثاني الشامسي، الرقابة على أعمال الإدارة، أكاديمية شرطة دبي (كلية القانون وعلوم الشرطة)، طبعة 2008، ص21.
[6] حمد عمر حمد، السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الطبعة الأولى الرياض، سنة 2003، ص156.
[7]  سليمان محمد الطماوي، الوجيز في القضاء الإداري، دراسة مقارنة، مطبعة جامعة عين شمس، الطبعة 1982، ص18-19.
[8] حمد عمر حمد، السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الطبعة الأولى الرياض، سنة 2003، ص156-157 .       
[9] سليمان محمد الطماوي، الوجيز في القضاء الإداري، دراسة مقارنة، مطبعة جامعة عين شمس، الطبعة 1982، ص19.
[10] موقع خاص بالمواد الدراسية لكلية القانون، جامعة الإمام جعفر الصادق (مبدأ المشروعية)، الرابط:
 http://lawsadk.forumarabia.com/t87-topic
[11] حمد عمر حمد، السلطة التقديرية للإدارة ومدى رقابة القضاء عليها، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الطبعة الأولى الرياض، سنة 2003، ص177-178 .      
[12] حمد عمر حمد، المرجع السابق، ص177-178 .  
[13] محمود سامي جمال الدين، المبادئ الأساسية في القانون الإداري لدولة الإمارات العربية المتحدة، دراسة مقارنة، ص40.
[14] مازن ليلو راضي،  دور القضاء الإداري في حماية حقوق الإنسان.
[15] سليمان محمد الطماوي، القضاء الإداري، الكتاب الأول (قضاء الإلغاء)، دار الفكر العربي سنة 1967، ص68-69.

Post a Comment

Previous Post Next Post