يا أيّـها الكرز المنسيّ
" ورفع رجلٌ أشيبَ طفلَـهُ الصّـغيرَ إلى أعلى بحركةِ فخورٍ ، وقال : " سأُسمّـيهِ عمرَ كاسمِ جدِّهِ " . ونظر إلى الأمّ الشّـاحبةِ الوجهِ المستلقيةِ على الفراشِ ، وضحك ، وقال لها : " لو كان يعرِفُ ما ينتظرُهُ لرفض المجيءَ ، ويوم أموتُ لن يرثَ سوى ثيابي " .
وارتبك عمرُ قليلاً ، ولكنّـه قال لأمّـه ِ : " لا داعيَ للبكاءِ . لستُ ذاهبـًا إلى المِشنقة " . فمسحتْ أُمُّـهُ دموعَـها بأصابِعها ، وقالتْ بصوتٍ مُرتعشٍ : " ليس لي غيرُكَ في الدّنيا . احرِص على صِحَّـتِكَ يا ابني ، فالقرى كلُّـها أمراضٌ وأوساخٌ . مسكينٌ أنت . لو كان لكَ قريبٌ مهمٌّ لما عُيِّـنتَ معلّـمـًا في قريةٍ " .
فقال لها عمر بلهجةٍ مرِحةٍ : " اطْمئنِّـي يا أُمّـي اطْمئنِّـي ، فابنـُكِ ليس زُجاجـًا سهْلَ الكسرِ " .
" وحدّق أهلُ الضّـيعة بوجوم وفُضولٍ إلى شابٍّ نزل من الباص الآتي من دمشقَ . كان شابًّـا مرفوعَ الرأسِ ، ذا عينين وديعتينِ وصارمتينِ في آنٍ واحدٍ . سلّـم علينا كأنّـه واحدٌ من أهلنا ، غاب عنّـا زمنـًا ثـمّ عاد . قال لنا : إنّ اسمه عمر القاسمُ ، وهو معلِّـمُ المدرسةِ الجديدُِ .
ونظرَ عمرُ بحبٍّ إلى الأولادِ المُتَـسَمِّرينَ على المقاعدِ وقال لهم : " أنا مُعلِّـمُكُم الجديدُ . اسمي عمرُ ... عمر القاسمُ . إنّـي أُحبُّ المجتهدينَ . أمّـا الكُـسالى فمِنَ الأفضلِ لهُم أنْ يَتَخَـلَّوْا عن كسَلِهِم وإلاّ ... "
وقال مُختارُ الضّـيعةِ لعمر : " يا أستاذُ : حتّـى الآنَ لم تذهبْ لزيارةِ الآغا " .
قال عمر : " لماذا أذهبُ ما دُمتُ لا أعرفهُ وهو لا يعرِفُـني ؟ " .
قال المختار : " اللّباقةُ ضروريّـةٌ ، والآغا سينفعك ، فكلَّ ما ترى عينُك من أراضٍ في الضّـيعة هي ملكُهُ.
قال عمر : " أبي وأُمّـي لم يُعلّـماني اللّباقةَ ، وعملي في الضّـيعة أنْ أُعلّـمَ الصّـغارَ القراءةَ والكتابةَ "
وقال رئيسُ مخفرِ الشـُّرطة لعمرَ : " إنّـي والله يا أستاذُ أعتبرُكَ كأخي تمامـًا ، وسأنصحُكَ نصيحةً ، أنت حُرٌّ ، إنْ شئتَ اعملْ بها أو ارمِها وراءَ ظهرِكَ . أنت دائمُ السّـهرِ مع فلاحي الضّـيعةِ ولا يليقُ بأُستاذٍ مثلِكَ أنْ يسهرَ معهم . معلِّـمُ المدرسةِ شخصيَّـةٌ محترمةٌ " .
قال عمر : " فلاّحو الضّـيعة ناسٌ طيّـبون " .
قال رئيس المخفر : " وأنت تـُكلّمُهُم كلامـًا إذا سمعَهُ الآغا فسيزعلُ ، وإذا زعِلَ الآغا ، فالله يعلمُ ما يحدثُ " .
وقال لنا عمر : " الظّـلمُ لا يدومُ " .
وقال لنا : " كيف تقبلون بحياةِ الذُّلِّ ؟ " .
فقلنا له : " العينُ بصيرةٌ واليدُ قصيرةٌ " .
فقال عمر بصوتٍ غاضبٍ : " اليدُ قصيرةٌ لأنَّ القلبَ خائفٌ " .
وقال لنا عمر قبل أن يصعدَ إلى الباص : " الآغا صاحبُ نفوذٍ وجاه في دمشقَ ، وهو الّذي نقلني من ضيعتِكُم لأنّـي لم أُصبحْ خادمـًا له ، ولأنّـي أُحبُّـكُم ، ولكنَّ اليوم الّذي تتخلَّـصون فيه من ذلك الآغا وأمثالهِ ليس بالبعيدِ ، بل هو قريبٌ ، وسترَوْنهُ أنتم لا أحفادُكُم ، وستصبحُ الأرضُ التي تشتغلون فيها ملكـًا لكم ".
" شهقتْ ضيعتنا مدهوشةً لمّـا علِمتْ أنّ عمر القاسم صار وزيرًا ، وها هي ضيعتـُنا يا عمرُ كما تركتـَها وردةً من طينٍ ، وعُشـْبـًا أصفرَ ، ونهرًا من الأطفال الحفاةِ .
وعمَّ ضيعَتـَنا الفرحُ ، ورحَّبَتْ بحرارةٍ بذلك النّـبأِ الّـذي أذاعَهُ الرّاديو ، إذاً عمرُ القاسمُ صار وزيرًا ، فسبحان مَن يُعطي دون أن يُـسألَ ، وصدقَ مَن قال : إنّ مَن جدَّ وجدَ .
" ماذا يشتغلُ الوزيرُ ؟ " .
" تـُخصَّصُ له سَيَّـارةٌ أحلى من أجملِ بنتٍ " .
" ويقبِضُ في آخرِ كلِّ شهرٍ معاشـًا يُتيحُ له أنْ يأكلَ خروفـًا في كلِّ يومٍ " .
" وعندما يدخُلُ إلى مبنى وِزارتهِ يرتجفُ الموظّـفون خوفـًا ، ويُسلّـمون عليهِ ... " .
" ويأمرُ فيُطاعُ ... " .
" وإذا أمرَ الآغا فهل يُطيعُ الآغا ؟ " . 
وقال واحدٌ من أهل الضّـيعةِ : " يجبُ أنْ نذهبَ إلى دمشق لتهنئتهِ " .
قال آخر بحماسةٍ : " سنذهبُ كُلُّـنا : الرّجالُ والنّـساءُ والصّـغارُ " .
وقال ثالثٌ : " ستذهبُ أيضـًا الخرافُ والأبقارُ والأرانبُ " .
قال رابعٌ : " الفكرةُ عظيمةٌ ، ولكنْ مَن سيدفعُ أجرةَ الباصِ ؟ هل نذهبُ سيْرًا على الأقدامِ ؟ " .
رانَ الصّـمتُ حينـًا ، ثـمّ قال رجلٌ عجوزٌ : " يكفي أن يذهبَ واحدٌ منـّا ، ويُهنّـئهُ باسم الضّـيعةِ ، هو يعرفُ حالَـنا ، ولن يعتِبَ علينا .
" ولكنْ مَن سيذهبُ ؟ " .
قال العجوزُ : " اختاروا مَن تشاءون . فليذهبُ مثلاً أبو فيّـاضٍ .
فحاول أبو فيّـاضٍ الرّفضَ غيرَ أنَّ أصواتـَنا حاصرَتـْهُ قائلة : " أنت أعقلُـنا " .
" وأكبرُنا سنًّـا وقدْرًا " .
" أنت تـُتقِنُ الكلامَ حتّـى معَ الملوكِ " .
" كان عمرُ يُـحبُّـكَ " .
" دائمـًا كان يشربُ الشّـايَ عندَكَ " .
" كان يُحبُّ حديثَـكَ " .
" كان صديقَـكَ " .
قال أبو فيّـاضٍ : " ولكنَّ عمرَ كان أيضـًا صديقـكُـم ، وكان يُحبُّكـم . أنسيتُـم ؟ " .
وقلنا لأبي فيّـاضٍ : لا فائدةَ في التّـهرُّبِ . ستذهبُ إلى دمشقَ ، وتقابلُ عمر وتهنِّـئُهُ " .
فهزَّ أبو فيّـاضٍ رأسَهُ مُوافقـًا مُستسلمـًا .
وقال أهل الضّـيعة : " قل لعمرَ : إنّـنا ما زلنا جياعـًا " .
" قل له : " إنّ جوعَنا ازداد " .
" بتنا نأكلُ حتّـى الحَصى " .
" حدّثه عن القمْلِ الّذي يأكُلُنا " .
" وعن اللّحم الّذي نسينا طعمَهُ " .
" حدّثه عن أمراضنا " .
" قل له : إنّـنا بحاجةٍ إلى أطباءَ وأدويةٍ " .
" ضيعَتُـنا بحاجةٍ إلى ماءٍ نظيفٍ للشُّـربِ " .
" حدّثه عن شـَوْقِنا إلى نورِ الكَهْرَباء " .
" كلّـمهُ عن الآغا وأفعالِهِ " .
" نحنُ نشتغلُ وهو يحصُدُ " .
" وصاح شابٌّ من شُـبّان الضّـيعة : " اسْـمعوا .. من المناسبِ أنْ يأخذَ أبو فيّـاضٍ معه هديةً لعمرَ " .
فتعالت أصواتـُنا مؤيِّدةً ، ولكنْ أيَّ هديّـةٍ نختارُ ؟
" خروفٌ أو عِدَّةُ دَجاجاتٍ " .
" هذه هديَّـةٌ لا تليقُ بِوَزيرٍ " .
" إذن أيَّ هديّـةٍ نـُرسلُ ؟ ! " .
قال أبو فيّـاضٍ : " أفضلُ هديّـةٍ هي سلّـةٌ من كرزِ ضيعَتِنا . أتذكرون كم كان عمرَ يُحبُّ كرزَ ضيعتِنا ، ويقولُ عن لونِه الأحمرِ : إنّـه تعّبُـنا ودمُـنا " .
فأثنينا جميعـًا على رأي أبي فيّـاضٍ .
 وأقبلَ ليلٌ أبيضُ ، واستسلمتِ الضّـيعةُ للنّـومِ ، وكنّـا نحن الفقراءَ جسدًا واحدًا مُرتجفـًا مبتهجـًا ، يُنادي أيّـامَ كنّـا نتصنّـتُ لكلامِ عمرَ مبهورين ، فكأنّـه عاش أمدًا في قلوبنا وقلوبِ موتانا .
وعندما أشرقت شمسُ الصّـباحِ على الضّـيعة تجمَّـعَ الرّجالُ والصّـغارُ والنّـساءُ حولَ الباص المسافرِ إلى دمشقَ .
" وركب أبو فيّـاضٍ الباص وبرفقتهِ سلّةٌ ملأى بالكرز الأحمرِ ذي الحبَّـاتِ النّـاضجةِ البرَّاقةِ .
ولمّـا أوشكتْ شمسُ الضّـيعةِ أنْ تأفُـلَ ، بلغ سمْعَنا بوقُ الباصِ العائدِ من دمشقَ ، فتراكضنا إلى ساحةِ الضّـيعةِ .
أتى الباص ، ونزل منه أبو فيّـاضٍ عابسَ الوجهِ ، واجمـًا ، وكانت إحدى يديهِ ما زالتْ تحمِلُ سلّـة الكرزِ .
تصايحنا بدهشةٍ :
" لماذا لم تـُعطِ  عمرَ سلّـة الكرزِ ؟ " .     
" ألم تقابلْـهُ ؟ " .
" ماذا قال لك ؟ " .
ظلَّ أبو فيّـاضٍ ساكتـًا كأنّـهُ أصمُّ ، ووضع سلّـةَ الكرزِ على الأرضِ ، وتكلّـم بصوتٍ أجشَّ ، فقال للصّـغارِ : " تعالَوْا وكُـلوا الكرزَ ، وعندما تكبرون لا تـَنْسَوا طعمَهُ " .
ثـمَّ مشى مُتَّـجـهـًا إلى بيتهِ ، فاعترضنا طريقَـهُ ، وقلنا لهُ : " تكلّـم ، وأخبرنا بما حدثَ " .
قال أبو فيّـاضٍ : " عمرُ ماتَ " .
فزعِلنا كأنّ أُمَّـنا قد ماتت ، بينما عاودَ أبو فيّـاضٍ السّـيْرَ ، وقد ازداد ظهرُهُ انحناءً .



Post a Comment

Previous Post Next Post