المدرسة
الجغرافية الحتمية
يؤمن أصحاب هذه المدرسة بالترابط القانوني الشامل بين الظواهر،
وأن كل ظاهرة ترتبط بما حدث في الماضي من ظواهر، وهي مشروطة بها، والحتمية ليست
موضوعاً جديداً وقد قال بها الكثير من الجغرافيين والعلماء منذ زمن بعيد، ومنهم
هيبوقراط (420 قبل الميلاد) الذي ميز في كتابه (الهواء والماء والمكان)، بين سكان
الجبال وسكان السهول، وكذلك أرسطو (322 - 284 ق. م)، الذي بين في كتابه (السياسة)،
وجود ترابط بين المناخ وطبائع الشعوب([1]).
حتى
إن أفكار الحتم البيئي التي تفسر الظاهرات الجغرافية البشرية بظاهرات جغرافية
طبيعية سيطرت على أفكار الجغرافية السياسية القديمة لأن المعرفة الإنسانية كانت في
بداية تطورها، وكانت المعلومات عن البيئة الطبيعية ودورها قليلة([2]).
وشغل موضوع العلاقة بين الإنسان والبيئة أذهان الكثير من
المفكرين مثل بودان (1520-1596م)، وابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي
(1332-1406م)، الذي حاول الربط بين طبائع البشر وصفاتهم البيئية واهتم بالعلاقة
بين الإنسان والبيئة، ومنهم كذلك مونتسيكو (1689 م)، في كتابه روح القوانين، وهتنر
1773, وهومير 1855، وتطورت الأفكار الحتمية لدى داروين وفروستر وشارل ريتر
(1779م)، والكسندر همبولدت (1769-1859م)، وراتزل (1844-1904م).
إن
الكثير من المفكرين أكدوا على حتمية تأثير القوى الطبيعية على نشاط الإنسان بما في
ذلك تأثير الموقع الجغرافي، وشكل سطح الأرض، وظروف المناخ وخصائصه، ونوعية التربة.
وحاول همبولت دراسة العلاقة بين المجتمعات والشعوب من جهة وبين البيئات التي تعيش
فيها من جهة أخرى، وبين أن الإنسان يتبع الأرض والمناخ والنبات.
وقد
اهتم راتزل بإيجاد تفسير جغرافي لكيفية تجمع السكان وتوزعهم على سطح الأرض وبيان
أثر البيئة الجغرافية على المجتمع بصفة عامة، ولكنه لم يكن متعصباً جداً للحتمية
الطبيعية، بل كان يعتقد أن للحضارة والثقافة شأناً كبيراً في تغيير عقلية الإنسان.
وهكذا كانت تلميذته ألين سمبل (1863-1937م) التي تبنت أفكاره ونقلتها إلى أمريكا
في كتابها مؤثرات البيئة الجغرافية الذي نشرته عام 1911م، بعد أن أدخلت على هذه
الأفكار تعديلات مهمة، وكانت تؤكد على
أهمية تأثير العوامل الجغرافية في الإنسان الذي هو نتاج هذه العوامل التي تؤثر به
بشكل مباشر([3]).
وقد
ربط الكثير من العلماء والجغرافيين بين الظروف الطبيعية وبين تطور الدول وتقدم
شعوبها، فقد ربط الجغرافي سترابون بين قيام روما وشكل إيطاليا وظروفها الجغرافية.
وهذا الأمر ينطبق على قارة أوروبة بشكل عام، وعلى اليونان بشكل خاص، المعروفة بشدة
تعرج شواطئها وتنوع تضاريسها ومناخها، والسؤال المطروح يتعلق بمدى حتمية تأثير هذه
الظروف والأوضاع الجغرافية في ظهور الحضارة اليونانية القديمة وتطورها ؟.
وقد
ذكرنا سابقاً ما بينه المؤرخ الروسي كلوتشيفسكي عن تنوع تضاريس أوروبة، وتعرج
شواطئها البحرية، وتعاقب السلاسل الجبلية والهضاب والسهول فيها، وأثر ذلك في حضارة
أوروبة وتطورها بشكل عام واليونان بشكل خاص.
وقد بلغت الحتمية الجغرافية ذروتها عند داروين
الذي بيّن في كتابه أصل الأنواع عام
1859م، أن الوسط الطبيعي (البيئة) هو صاحب الدور المقرر والمفسر للحياة على
سطح الأرض، وأن مجموع الوقائع بما فيها التفكير البشري تنبع من الوسط الطبيعي([4]).
وهكذا نرى كيف أن الكثير من أنصار المدرسة الحتمية غالوا في
إلغاء قدرات الإنسان، وتضخيم أثر الظروف البيئية في تشكيل المجتمعات البشرية
وبنائها.
Post a Comment