مقاومة الجاذبية الأرضية:
العقبة الرئيسية التي تواجه عملية الارتفاع في علو البناء هي مقاومة الجاذبية الأرضية.
لو تخيل أحدٌ منا أنه يريد حمل صديقاً له على كتفيه, فإذا كان هذا الشخص خفيف الوزن ستبدو هذه العملية ممكنة, لكن لو أنّ شخصاً آخر تمّ وضعه على كتفي الصديق الذي يحمله فإنّ ثقل الوزن الملقى على كتفيه سيكون كبيراً عليه كي يحمله لوحده. فلإقامة برجٍ مرتفع من الناس سيحتاج إلى عدد أكبر من الأشخاص في الأسفل (القاعدة) لدعم الأشخاص الموجودين في الطبقات العليا.
وهذه هي طريقة بناء الأهرامات, حيث يتوجب توافر مواد مدعمة أكثر في الأسفل, وذلك لدعم قسم المواد المركبة في المنطقة العلوية. وفي كل مرّة نضيف فيها طبقة فإن مجمل القوة الواقعة على كل نقطة في الأسفل تزيد الضغط عليها, وإذا ما استمررنا في زيادة قاعدة الهرم سيصبح ذلك غير قابل للتطبيق بسرعة كبيرة كون أنّ القاعدة السفلية ستتطلب مساحة واسعة من الأرض المتاحة. أما بالنسبة للمباني التقليدية المصنوعة من القرميد والمورتار يمكننا زيادة سماكة الجدران السفلية إذا ما أردنا بناء طوابق علوية جديدة وبعد أن تصل إلى ارتفاع محدد ستصبح هذه العملية غير عملية, لكنّ السؤال يدور حول أهمية الارتفاع في البناء إذا خسرنا المساحة الموجودة في الطوابق السفلية؟
وباستخدام هذه التقنية لن يكون بمقدورنا تجاوز حد ارتفاع الـ 10 طوابق كون أن عملية الارتفاع بأكثر من ذلك لكن تكون عملية. لكن في أواخر القرن التاسع عشر ظهرت تطورات وظروف ساعدت المهندسين على كسر هذا الحاجز.
فالظروف الاجتماعية التي قادت إلى إنشاء ناطحات السحاب كانت تتمثل في نمو المراكز الحضرية الأمريكية خصوصاً في شيكاغو, إضافةً إلى الحاجة إلى تواجد مركز العمل في أماكن قريبة من المدن, دفعت المهندسين للتفكير بشكل جدّي في إيجاد حل لبناء إنشاءات ولمخاطر سقوط المباني التي يمكن العمل على إنشائها بشكل مرتفع.
والتقدم التقني الأساسي الذي جعل إمكانية بناء ناطحات السحاب واردة تمثل في تطور إنتاج الحديد والفولاذ, وذلك من خلال إنتاج القضبان الحديدة والصلبة التي منحت المهندسين مجموعة كاملة جديدة من البلوكات الإنشائية للعمل, كما قدم لنا التطور التقني للقضبان الحديدة ذات الوزن الخفيف التي تستطيع أن تدعم وزن أكبر بطريقة أفضل من الجدران القرميدية الصلبة التي كانت مستخدمة في عمليات إنشاء المباني القديمة, كما أن هذه القضبان قادرة على تقليص الحاجة إلى مساحة أكبر خلال الإنشاءات. أضف إلى ذلك أن الإمكانيات الفولاذية البسمرية ساعدت المهندسين المعماريين في التخلي عن الحديد في الإنشاءات كونها هي الطريقة المثالية في إنتاج صناعة الفولاذ, الأمر الذي مهد لنا الطريق لبناء إنشاءات أكثر ارتفاعاً مما كان في السابق.

شبكة ضخمة من العوارض:
التدعيم الذي تتلقاه ناطحات السحاب يكمن في الهيكل الفولاذي. فالقضبان المعدنية تعمل على تثبيت المبنى من كلا الجانبين, كما يتم وصل القضبان العمودية بالقضبان الأفقية في كل طابق من المبنى, وفي العديد من المباني تتواجد القضبان القطرية داخل العوارض للحصول على قدرة تدعيم إنشائية أكبر, وعن طريق هذه الشبكة ذات الأبعاد الثلاثية يتم نقل ثقل المبنى إلى القضبان العمودية, ومن ثم تقوم هذه الأعمدة بنقل الثقل إلى قاعدة البناء التي تقوم بدورها بنشر هذه القوة الضاغطة على التركيبات الثانوية تحت المبنى.

وعندما نقوم بإنشاء ناطحة سحابٍ مثالية يتوجب علينا وضع القضبان العمودية على الأرضية المنتشرة حيث تلقي بوزنها على طبقة القالب الحديدي التي تتوضع على شبيكة العوارض الأساسية. وهذه بدورها تتألف من مجموعة من الطبقات الفولاذية الأفقية مرتبة بشكل دوري على شكل طبقتين أو أكثر (انظر إلى المخطط التالي).



ويتم وضع هذه الشبيكة على طبقة سميكة من البيتون يتم صبها مباشرة على المادة الطينية الصلبة الموجودة كأرضية للبناء. أما في كل المباني الثقيلة تتركز قاعدة الأرضية على الأرصفة البيتونية الضخمة التي تمتد بشكل كامل باتجاه الأسفل لتصل إلى أرض حجر الأساس.
وتعد الجدران الخارجية الستائرية إحدى أهم الميزات التي يمنحنا إياها الهيكل الفولاذي, وهي بحاجة إلى دعم وزنها, الأمر الذي سمح للمهندسين المعماريين ببناء ما يريدون بشكل عكسي بالكامل للجدران السميكة الموجودة في الإنشاءات التقليدية.
يُذكر أنّه في العديد من ناطحات السحاب التي تمّ بناؤها في خمسينات وستينات القرن الماضي كانت الجدران الستائرية مبنية تقريباً بالكامل من الزجاج لمنح ساكنيها رؤية مدهشة لمدينتهم.

العمل على جعل ناطحات السحاب عملية:
عملية صناعة الحديد والفولاذ فتحت الباب لإمكانية بناء الأبراج, لكن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد الذي جعل حلم بناء ناطحات السحاب حقيقة, بل يضاف إلى ذلك أنّه كان من الضروري على المهندسين المعماريين العمل على جعل هذه الإنشاءات عملية.
فعندما نقوم ببناء إنشاء يتألف من أكثر من ستة طوابق, ستبدو عملية إنشاء الأدراج تقنية لا يمكن استخدامها, ولهذا السبب لم تكن عملية تحول حلم إنشاء ناطحات السحاب إلى حقيقة أمراً وارداً بدون ظهور تقنية المصاعد والتي أتت عن طريق المصادفة. فمنذ تركيب المصعد في متجر "هاو أوت" الكبير في مدينة نيويورك في عام 1857م أصبحت المصاعد العمودية جزءاً لا يتجزأ من تصميم ناطحات السحاب.

فمن البديهي عندما نقوم بإنشاء المصاعد بشكل يمنع تكتل الناس في طوابير من أجل الوصول إلى بيوتهم, لكن المشكلة تكمن في تطلّب المصاعد العمودية عدد كبير من غرف المبنى, وبالتالي سنخسر مساحة كبيرة من الإنشاء, ومن هنا كانت مسألة من أهم المسائل الواجب مراعاتها في أي تصميم ناطحة سحاب.
كما أنّ مسألة أمان المبنى تعتبر من أهم المسائل الواجب أخذها بعين الاعتبار, فناطحات السحاب الحالية لم تكن لتصبح بهذه الجودة بدون اكتشاف المواد المضادة للحرائق في الأبنية في القرن التاسع عشر, وقد تمّ تجهيز ناطحات السحاب بجهازٍ رشاش معقد قادرٌ على إطفاء معظم الحرائق قبل أن تنتشر على نطاق واسع, وذلك لحماية مئات الساكنين والعاملين في بناء يرتفع إلى آلاف الأقدام وبدون مخرج أمان.
يُذكر أن المهندسين المعماريين أولوا اهتماماً خاصاً براحة قاطني الأبنية. ففي بناء "إمباير ستايت", على سبيل المثال, تم تصميمه بالشكل الذي يسمح بوجود نافذة في كل 30 قدم. كما أنّ بناء البنك التجاري في مدينة فرانكفورت في ألمانيا يتضمن على مناطق حدائقية هادئة داخل المبنى على قبالة مناطق مكاتب العمل وبشكل متسلّق لولبي. وبهذا نلاحظ أنّ أي تصميم بناء ناجح لا يعتمد على السلامة الإنشائية فقط بل على جودة استخدامه ورضا الساكنين به.

مقاومة الرياح:
يتوجب على ناطحات السحاب أن تتعامل مع القوة الأفقية للرياح إضافة إلى مواجهة ضغط الجاذبية الأرضية. فمعظم ناطحات السحاب يمكن أن تتحرك بضعة أقدام كشجرة تهتز أمام الرياح بدون تعريض سلامة البناء إلى أي خطر, لكن المشكلة تكمن في شعور الناس الساكنين في هذا البناء بهذه الحركة الأفقية.
وهنا يجدر بنا التنويه إلى أنّ طريقة تثبيت البناء ببساطة هي الطريقة الأساسية للسيطرة على التأرجح الأفقي. ففي كل عقدة تلتقي فيها العوارض مع القضبان العمودية سيقوم الإنشاء بربطها وتثبيتها من الأعلى إلى الأسفل لتكون ككلٍّ واحد مرن, كما سيتم تسليح منطقة المصاعد الموجودة في منتصف البناء بالجملون الفولاذي القوي التي سيتم تثبيته بالقضبان العمودية, الشيء الذي يفسّر وجود أكثر من حشوة بيتونية في منتصف معظم المباني الحديثة, كما أنّ ذلك سيساهم في تحمّل هذه الإنشاءات لأضرار الهزات الأرضية, كونها تتحرك بشكل أساسي لاهتزازات الأرض الأفقية, وبهذا سنحول دون إجهاد الهيكل الفولاذي والتوائه. لكن المشكلة تتلخص في شعور ساكني البناء بهذه الحركة, إضافة إلى أنّ العملية ستؤدي إلى إلحاق الضرر بالأجهزة والأثاث, الأمر الذي دفع العديد من الشركات للعمل على تطوير تقنية جديدة تقوم بصد الحركة الأفقية عن طريق إضعاف قوّة الاهتزازات, ولهذا تمّ استخدام أجهزة ترطيبية للرياح في بعض المباني, كما هو الحال في مركز "سيتي كورب" في مدينة نيويورك.
وخلال هذه العملية المعقّدة تقوم الأنظمة الزيتية الهيدروليكية بدفع 400 طن من البيتون إلى الخلف والأمام في الطوابق العلوية لنقل ثقل المبنى من جانبٍ إلى آخر. ولمعرفة كيف تقوم الرياح بتحريك المبنى ونقل الثقل من مكان إلى آخر, فقد تمّ استخدام نظام كمبيوتري معقّد يرصد هذه الحركة كما توجد أنظمة أُخرى تعمل على توزيع ثقل المبنى عن طريق شواقيل كبيرة. 

Post a Comment

أحدث أقدم