المحرِّض على الفعل الاجرامي
تعريف المحرِّض:
«يعد محرضاً من حمل أو حاول أن يحمل شخصاً آخر بأي وسيلة كانت على ارتكاب جريمة».
ومن هذا التعريف يتبين لنا أن التحريض هو حمل المحرِّض شخصاً آخر، أو محاولة حمله، بوسيلة ما، على ارتكاب جريمة. ونستخلص من ذلك أن المحرِّض هو الذي يحمل المحرَّض على ارتكاب جريمة. ولفظ «حمل» يعني ـ لغة واصطلاحاً أن المحرِّض يقوم بنشاط إيجابي يتكون من عدة عناصر هي: خلق فكرة الجريمة لدى المحرَّض، وإقناعه بقبولها، ودفعه إلى تنفيذها ـ. كما نستخلص منه أيضاً أن المشرع يساوي بين «الحمل» و «محاولة الحمل». ويقصد بمحاولة الحمل شروع المحرِّّض بإقناع شخص على ارتكاب جريمة، إلا أنه يفشل في هذا المسعى برفض المحرَّض قبول الفكرة أو العمل على تنفيذها. وهذا معناه أن جريمة التحريض ـ من حيث المبدأ ـ تقع بمجرد عرض فكرة الجريمة على المحرِّض، وبذل نشاط إيجابي لإقناعه بها، وذلك بصرف النظر عن قبول المحرَّض أو رفضه. وهذا موقف متشدد للمشرع السوري من المحرِّض، سببه أن المحرِّض هو الذي يخلق فكرة الجريمة، ويورِّط غيره في ارتكابها، فهو إذن إنسان خطر إجرامياً، يريد الجريمة ولكنه يدفع غيره إلى ارتكابها بعيداً عنه، واقفاً وراء ستار، وهو غالباً ما يتنصل منها إذا ارتكبت، ويضع نفسه فوق الشبهات.
ولكن المشرع السوري ـ على أي حال ـ لم يترك الأمر جزافاً، وإنما ربط تجريم المحرِّض بقيود ندرسها في أركان التحريض.
ـ أركان التحريض:
يتضح لنا من التعريف السابق أن التحريض يقوم على ركنين: الركن المادي المؤلف من النشاط الإيجابي، أي الفعل أو الأفعال المكونة لماديات الجريمة. والركن المعنوي المؤلف من القصد الإجرامي، أي الحالة الذهنية والنفسية التي يكون عليها المحرض ساعة قيامه بالتحريض.
الركن المادي ـ (النشاط الإيجابي):
النشاط الإيجابي هو نشاط ذو طبيعة نفسية، مكون من الفعل المادي المتمثل بالقول أو الكتابة أو الإشارة...، والذي يقوم به المحرِّض لبذر فكرة الجريمة لدى المحرَّض، وإقناعه باقترافها، ودفعه إلى تنفيذها، بإثارة شعوره، وشحذ عزيمته، وتنمية التصميم لديه، وذلك بوسيلة من الوسائل.
ولا أهمية لطبيعة وسائل التحريض. فسواء تم التحريض بالقول أو الكتابة أو الإشارة، فلا بد من أن يأخذ صورة التهديد، أو الوعيد، أو الخديعة، أو دفع مبلغ من المال، أو استعمال الرئيس نفوذه على مرؤوسه، أو استعمال الوالد سلطانه على ولده([1]). المهم أن يقع التحريض بنشاط إيجابي مهما كان نوعه. فالركن المادي للتحريض لا يتحقق بموقف سلبي، أي بمجرد الامتناع، لأن جوهر التحريض هو عرض الفكرة والدفاع عنها لإقناع من عرضت عليه بقبولها، وذلك بالإضافة إلى أن هذا النشاط يجب أن يكون من ضمنه استعمال وسيلة من شأنها التأثير في المحرض ودفعه إلى القبول بالمشروع الإجرامي.
ومن هنا يمكن القول أن التحريض يجب أن يكون جدياً ومؤثراً، ومن شأنه أن يحقق غايته. فإذا كان مجرد حديث عادي، أو عرض وجهة نظر، أو اقتراح، أو تمنيات، أو تعبيراً عن حقد أو غضب أو بغضاء، فلا يعد تحريضاً.
ومن مقومات التحريض أن يوجه إلى شخص خالي الذهن من الجريمة، أما إذا كان هذا الشخص يفكر في الجريمة من قبل، وجاء من يشدد عزيمته، فلا يعدّ ذلك التشديد تحريضاً، بل يعدّ تدخلاً.
وكذلك يجب أن يكون التحريض موجهاً نحو جريمة معينة يعاقب عليها القانون. فإذا أوغر شخص صدر شخص آخر ضد شخص ثالث، وكون في نفسه عداوة شديدة نحوه، فاندفع إلى قتله، فلا يعدّ محرضاً، طالما أنه لم يوجه القاتل لارتكاب جريمة معينة بالذات، وهي جريمة القتل.
ولكن لا يشترط في التحريض على جناية أو جنحة أن يلقى قبولاً لدى المحرَّض، لأن التحريض يشكل جريمة قائمة بذاتها بصرف النظر عن قبول المحرَّض أو رفضه، أو عن تنفيذ الجريمة أو عدم تنفيذها، أو عن وصول الفاعل إلى النتيجة الجرمية أو عدم وصوله إليها. وهذا واضح من نص المادة 216، التي تعدّ التحريض متحققاً بمجرد «محاولة الحمل على ارتكاب جريمة».
الركن الثاني ـ القصد الإجرامي:
لا يعد نشاط الفرد تحريضاً ما لم يقترن بحالة ذهنية ونفسية معينة عنده. فهو يجب أن يكون عالماً بمدلولات كلماته أو عباراته التي يقولها أو يكتبها، وبمدى تأثيرها على الشخص الموجهة إليه. كما يجب أن تكون إرادته متجهة إلى إقناع هذا الشخص، وخلق التصميم لديه على ارتكاب الجريمة التي يعرض أمرها.
وبناء على ذلك، فلا يعد الشخص محرضاً إذا كان يعتقد بأن حديثه مجرد إفضاء ما في مكنون نفسه لشخص عن شخص آخر يحمل له عداوة وبغضاء، أو إذا كان يُعبّر أمام أحد أصدقائه عن رغبة دفينة في نفسه بزوال شخص من الوجود، دون أن تكون إرادته متجهة إلى دفع صديقه لقتل ذلك الشخص.
وفي تقديرنا، فإن رجل المباحث الجنائية الذي يندس في عصابة إجرامية ويحرضها على ارتكاب جريمة، لا يعد محرضاً، لانتفاء قصده الإجرامي. فهو إذا كان يريد البدء بتنفيذ الفعل فإنه لا يريد النتيجة الجرمية، ويسعى فوق ذلك إلى تجنبها والحيلولة دون حدوثها. ويذهب بعض الفقه إلى تسمية هذا النوع من العمل «التحريض الصوري»([2])، وتسمية رجل المباحث الجنائية بـ «المحرض الصوري».
ـ مسؤولية المحرِّض وعقوبته:
ينطلق المشرع في تحديد مسؤولية المحرض وعقوبته من القاعدة التي تضمنتها المادة 216 من قانون العقوبات، والتي تقول: «تبعة المحرِّض مستقلة عن تبعة المحرَّض».
ومعنى هذه القاعدة أن الشخص يعدّ محرِّضاً ويستحق العقاب بمجرد محاولته حمل شخص آخر على ارتكاب جريمة، حتى لو رفض هذا الشخص قبول فكرة المحرِّض، باستثناء التحريض على مخالفة، فهو لا يعاقب إلا إذا لقي قبولاً. وعلة هذا التشديد هي خطورة التحريض ورغبة المشرع في قطع دابره.
وينبني على قاعدة «تبعة المحرض مستقلة عن تبعة المحرض» النتائج التالية:
أولاً ـ قررت المادة 217 من قانون العقوبات تعرض المحرِّض لعقوبة الجريمة التي أراد أن تقترف، سواء كانت ناجزة أو مشروعاً فيها أو ناقصة. وهذا أيضاً موقف متشدد، لأن عقوبة المحرض تكون أحياناً، كما في الشروع، أكبر من عقوبة الفاعل والشريك.
ولكن المشرع اتجه إلى التخفيف إذا لم يفض التحريض على جناية أو جنحة إلى نتيجة. حيث تخفف العقوبة من الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة من اثنتي عشرة سنة إلى عشرين سنة، ومن الأشغال الشاقة المؤبدة أو الاعتقال المؤبد إلى العقوبة نفسها لا أقل من عشر سنين. وفي الحالات الأخرى تخفض العقوبة حتى النصف (م 217 ف  و 219 ف 3 و 4).
وتنزل التدابير الاحترازية بالمحرض كما لو كان هو فاعل الجريمة (م 217 ف 4).
ثانياً ـ لا قيمة لعدول المحرِّض عن تحريضه حتى لو أبلغه إلى المحرَّض بإلغاء المشروع الإجرامي، وثناه عن عزمه على المضي في طريق جريمته. وهذا حكم شديد يختلف فيه المحرِّض عن الشريك والمتدخل. فهذان الأخيران جريمتهما مستمدة من جريمة الفاعل، فإذا عدل الفاعل عن ارتكاب الجريمة استفادا من عدوله.
ثالثاً ـ لا يتأثر المحرض بمفاعيل الظروف المادية والشخصية والمزدوجة المتعلقة بالفاعل والشريك والمتدخل، بينما يتأثر هؤلاء الأشخاص بالظروف المتعلقة بأحدهم وفق القواعد المنصوص عليها في المادة 215 من قانون العقوبات. وقد استثنى المشرع المحرض من التأثر بهذه الظروف لاستقلال جريمته عنهم.
ـ مسؤولية المحرِّض عن الجرائم الأخرى التي يرتكبها المحرَّض:
كما رأينا في دراسة الشريك، نرى أيضاً في دراسة المحرِّض، أن المحرَّض يمكن أن يرتكب جريمة أخرى غير الجريمة محل التحريض، كأن تكون الجريمة محل التحريض هي الإيذاء فيرتكب المحرّض القتل، أو السرقة أو الإتلاف أو فعلاً منافياً للحشمة. فما هو مدى مسؤولية المحرِّض عن الجرائم الأخرى التي يرتكبها المحرَّض، ولم تكن موضوعاً للتحريض؟
يرى بعض الفقه أن تقتصر مسؤولية المحرِّض على الجريمة موضوع التحريض ولا تتعدى إلى الأفعال الأخرى التي يرتكبها المحرَّض، بحجة أن تبعة المحرِّض مستقلة عن تبعة المحرَّض([3]). فالمحرِّض ينتهي دوره ساعة استكمال جريمة التحريض لعناصرها، ولا علاقة له بما يقوم به المحرَّض بعد ذلك من أفعال لارتكاب الجريمة التي تم تحريضه عليها، سواء كانت أقل أو أكثر مما طُلب إليه تنفيذه.
ويرى بعض الفقه الآخر، ونحن من هذا الرأي، أن فيصل المسألة هو الحالة الذهنية والنفسية التي يكون عليها المحرِّض ساعة التحريض. فإذا كان قد توقع الجرائم الأخرى التي ارتكبها المحرَّض، وقبل بالمخاطرة، فإنه يُسأل عن هذه الجرائم استناداً إلى قصده الاحتمالي.
* * *


(1) حددت المادة 121/7 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد وسائل التحريض على سبيل الحصر بالعطية، والوعد، والتهديد،والأمر، وإساءة استغلال السلطة. وقد أضافت المادة الجديدة على المادة 60 من قانون العقوبات الفرنسي القديم «الأمر»، وحذفت «الخداع».
([2]) راجع: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات اللبناني ـ القسم العام، ف 618، ص 620.
([3]) راجع: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات اللبناني، القسم العام، ف 622، ص 623 ـ 624 .

Post a Comment

Previous Post Next Post