ثمرات العقيدة وآثارها
على الفرد والمجتمع:
والعقيدة الصحيحة
تثمر أعظم الثمرات التي تظهر آثارها على الفرد أولا، ثم تظهر فيما بعد على المجتمع
كله، مع ضرورة أن نضع في اعتبارنا أن كل نفع أو صلاح للأفراد هو بالضرورة سبيل لصلاح
المجتمع كله، لأن المجتمع في حقيقته ليس سوى مجموع أفراده رجالا ونساء وصغار وكبارا
ومن أبرز تلك الثمرات ما يلي([37]):
آثارها على
الفرد:
1- النجاة في الدنيا والآخرة:
فالتوحيد والإيمان
سبب النجاة والفلاح والفوز والرفعة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ييسر الله للمؤمن
أموره، ويجعل له مخرجا من كل ضيق، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وينصره على أعدائه ويمده
بمدد من عنده، ومن أول وأهم شروط حصول الاستـخلاف في الأرض تحقيق الإيمان
وأما في الآخرة فلا
نجاة ولا فوز إلا لمن حقق التوحيد واجتنب الشرك، وقد حكم الله سبحانه أن الجنة محرمة
على كل من أشرك به ومن علامات حسن الخاتمة أن يكون آخر كلام المؤمن النطق بالشهادتين
كما في الحديث: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»([38]).
ومن فضائل التوحيد
أنه سبب لتكفير الذنوب وسبب لترجيح كفة الحسنات على السيئات كما في حديث البطاقة المشهور،
وسبب لمنع الخلود الأبدي في النار لقوله
(ص): «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار»([39]).
وهو سبب لنوال شفاعة
المصطفى ^ ففي الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك
يوم القيامة فقال رسول الله ^: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث
أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال
لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه»([40]) وسبب لتحقيق الأمن الكامل والظلم هنا
معناه الشرك، وسبب للنجاة من الفزع الأكبر
2- تحقيق معنى الكرامة الإنسانية:
إذ من المستحيل على
الإنسان أن يشعر بقيمته وكرامته ومنزلته في كون الله الواسع الفسيح بكل ما يحدثه ذلك
من آثار مهمة على طريقة تفكير الإنسان وأهدافه وغاياته ورسالته في الحياة، إلا إذا
آمن بالله وكتبه ورسله والبعث بعد الموت.
ولعل الأمر يبدو
أكثر وضوحا إذا قارنا بين مفهوم الإنسان ومكانته في الفكر البشر المادي، وبين مفهومه
ومكانته في الإسلام، فالإنسان في الفكر المادي ليس سوى قبضة من تراب الأرض، منها نشأ
وعليها يمشي وإليها يعود وهو كتلة من اللحم والدم والعظام والأعصاب، وليس لهذا الإنسان
أهمية ولا امتياز على غيره، إذ لا يعدو أن يكون أحد الأحياء الكثيرة المتنوعة على هذه
الأرض، وغاية أمره أنه تطور بمرور الزمن فأصبح هذا الإنسان وهو في الأصل حيوان متطور،
ترقى من طور إلى طور حتى بلغ ما هو عليه، والحيوانية فيه بمثابة قشرته ولبه، ولحمته
وسداه.
ولا شك أنه لا يوجد
إيحاء أسوأ أثرا للنفس البشرية من هذا الإيحاء، وحينما يرى الإنسان نفسه مخلوقا هابطا،
وحيوانا، وطينا وحمأ، فلن يستغرب من نفسه الانحدار والتلوث والإسفاف، ولن يستنكف من
القذارة والأوحال أن يتمرغ فيها ويتلطخ بها، بل المستغرب منه أن يتعفف ويتطهر وأن يحيا
نظيفا مستعليا على الشهوات والمطامع المادية.
أما الإنسان عند
أصحاب العقيدة الصحيحة والمؤمنين بوحي الله النازل من السماء، فهو مخلوق كريم على الله،
خلقه ربه في أحسن تقويم، وصوره فأحسن صورته، وقد خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد
له ملائكته وميزه بالعلم والفهم، وجعله خليفة في الأرض، وسخر له كل ما في السماوات
والأرض، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
وقد تعددت الآيات
القرآنية التي تظهر كرامة الإنسان وقيمته فضلا عن تسمية سورة كاملة من القرآن بسورة
الإنسان،] كما حكى سبحانه قصة خلق أبي البشر آدم عليه السلام، وكيف أمر الله الملائكة
بالسجود له بعد أن أظهر الله لهم علم آدم وفضله، وكذلك ذكر سبحانه تسخير كل ما في الكون
من مخلوقات ونعم لنفع الإنسان وصلاح أمره
يظهر لنا أن الله
سبحانه وتعالى قد: «اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه، وخلقه لنفسه
وخلق كل شيء له، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخر له ما
في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استـخدمهم له، وجعلهم
حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه، ورسله، وأرسل إليه وخاطبه
وكلمه منه إليه، واتـخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن
أسراره ومحل حكمته وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار فالخلق والأمر والثواب والعقاب
مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي وعليه الثواب
والعقاب، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات»([41]).
وهذه المكانة والمنزلة
إنما تظهر على وجهها الأتم والأكمل في حق عباد الله الموحدين، فصاحب النظرة المادية
يشعر بالتفاهة والضياع والعبثية، بينما صاحب العقيدة يشعر بمعاني الكرامة على الحقيقة،
ليس بوصفه إنسانا فحسب وإنما بوصفه إنسانا مؤمنا ينتمي لخير أمة أخرجت للناسكما يشعر
بالكرامة والعزة والحرية والاستعلاء والثقة بأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ويستحيل
أن تتسرب إليه مشاعر الدونية أو الصغار والذلة والهوان
3- تحقيق السعادة.
والسعادة هي الدرة
المفقودة، والحلم المنشود الذي يلهث خلفه البشر جميعا من العالم في قمة تفكيره وتجريده
إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن الملك في قصره المشيد إلى الصعلوك في كوخه الصغير،
ولا يتصور أن يوجد أحد من العقلاء يبحث عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها بل الكل يسعى
إلى طرد الهموم وراحة البال، وكما يقول ابن حزم رحمه الله: «تطلبت غرضا يستوي الناس
كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحدا وهو طرد الهم، فلما تدبرته علمت أن الناس
كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم
وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم ولا ينطقون
بكلمة أصلا إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهم... وليس في العالم ــ مذ كان إلى أن
يتناهى ــ أحد يستحسن الهم، ولا يريد طرده عن نفسه»([42]).
ولكن المشكلة ليست
في اتفاق البشر أجمعين على طلب السعادة ودفع الهموم وإنما السؤال الذي حير الكثيرين
هو أين السعادة وكيف تحصل، وما السبيل إليها، وقد جرب الناس في شتى العصور ألوان المتع
المادية وصنوف الشهوات الحسية فما وجدوها تحقق السعادة أبدا، بل زادتهم شقاوة وحسرة،
فهناك من ظن السعادة في الأموال والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وهناك من ظنها
في كثرة الولد الذين هم زهرة الحياة وزينة الدنيا، وهناك من ظنها في الاستمتاع بالنساء
واتـخاذ الخليلات، وهناك من ظنها في علو الجاه وانتشار الصيت وتحصيل أعلى الشهادات
والوصول إلى أرقى المناصب.
ولكن الشرع والعقل
وشواهد الواقع تجزم بأن تلك الأشياء كلها لم تحقق لأصحابها السعادة أو الطمأنينة، وكما
يقول ابن حزم ملخصا النتيجة التي خلص بها من تأمله وتفكره الطويل في تلك المسألة:
«وجدت العمل للآخرة ــ سالما من كل عيب خالصا من كل كدر ــ موصلا إلى طرد الهم على
الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر، إذ رجاؤه
في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب... ورأيته إن قصد بالأذى سر، وإن نكبته نكبة
سر وإن تعب فيما سلك سر، فهو في سرور متصل أبدا، وغيره بخلاف ذلك أبدا، فاعلم أنه مطلوب
واحد وهو طرد الهم وليس إليه إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى، فما عدا هذا فضلال
وسخف»([43]).
وهكذا فإن السبيل
الوحيد لتحقيق السعادة هو توحيد الله ومعرفته والتقرب إليه بأنواع الطاعات والرضى بأحكامه
الشرعية والقدرية وفي القلب: «شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها
إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق
لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى
بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون
أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره،
وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا»([44]).
4- الرضا والأمل:
والرضا نعمة عظيمة،
وهبة جزيلة، هيهات أن يصل إليها جاحد بالله أو شاك فيه، أو مرتاب في جزاء الآخرة، وإنما
يصل إليها من قوي إيمانه بالله وحسن اتصاله به، وقال النبي ^: «ذاق طعم الإيمان من
رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا»([45]).
والمؤمن الموحد فقط
هو الذي يغمره الإحساس بالرضا بعد كل قدر من أقدار الله، وهو الذي يحس تلك الحالة النفسية
التي تجعله مستريح الفؤاد، منشرح الصدر، غير متبرم ولا مضجر ولا ساخط على نفسه وعلى
الكون والحياة ومنشأ ذلك رضاه عن وجوده الخاص في نفسه، وعن الوجود العام من حوله ومبعث
هذا وذاك وينبوع هذا الرضا هو الإيمان بالله رب العالمين.
فالمؤمن راض عن نفسه
ــ أي عن وجوده ومكانه في هذا الكون ــ لأنه يعلم انه ليس ذرة ضائعة ولا كما مهملا
ولا شيئا تافها، بل هو خليفة الله في أرضه وأكرم مخلوقاته، وهو راض عن الحياة والكون
من حوله لأنه يعتقد أن هذا الكون الفسيح صنع الله الذي أتقن كل شيء، والذي أعطى كل
شيء خلقه ثم هدى، وكل ذرة في الأرض أو السماء تدل على حكمة الله وتقديره.
ثم هو فوق ذلك كله
راض عن ربه ومولاه جل وعلا، لأنه آمن بكماله وجلاله، وأيقن بعدله ورحمته، واطمأن إلى
علمه وحكمته، وهو موقن تمام اليقين أن تدبير الله أفضل من تدبيره لنفسه ورحمته تعالى
به أعظم من رحمة أبويه به، ونعم الله تحيط به من كل جانب، وفضله قد عم المخلوقات
وإلى جانب شعور الرضا
الذي تحدثه العقيدة في نفس صاحبها فثمة شعور آخر في غاية الأهمية وهو الأمل والرجاء
وهو وقف على المؤمنين الموحدين وأبعد ما يكون عن الجاحدين المكذبين والأمل والإيمان
متلازمان والمؤمن أوسع الناس أملا وأكثرهم تفاؤلا واستبشارا وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم
والضيق بينما الكفر قرين لليأس وملازم له،
ومبعث الأمل والتفاؤل
عند الموحد هو إيمانه بربه ومولاه الذي بيده ملكوت كل شيء، والفعال لما يريد، والبر
الرحيم التواب، والمؤمن المعتصم بهذا الإله الرحيم الودود دائما متفائل، ينظر إلى الحياة
بوجه ضاحك، ويستقبل أحداثها بثغر باسم، ولا يتسرب الحزن أو التشاؤم والقنوط إليه أبدا.
فهو إذا حارب كان
واثقا بالنصر لأنه مع الله وإذا مرض لم ينقطع أمله في الشفاء والعافية: وإذا اقترف ذنبا لم ييأس من المغفرة، ومهما كان ذنبه
عظيما فإن عفو الله أعظم وإذا أعسر لم يزل مؤملا في اليسر وإذا أصابته مصيبة كان على
رجاء من الله أن يؤجره في مصيبته ويخلفه خيرا منها
5- تحقق الأمن بمفهومه الشامل:
وعلى قدر رسوخ العقيدة
في القلب، وكمال الإيمان ظاهرا وباطنا، والسلامة من الشرك بمختلف صوره وأشكاله يتحقق
للمكلف الأمن بمعناه الشامل والمتكامل، وقد قصر الله في كتابه حصول الأمن على المؤمنين
وإنما كان الأمر
بهذه المثابة لأن غير المؤمن في قلق دائم وخوف مستمر مما يخبئه المجهول ويأتي به الغد،
وأما المؤمن فهو مطمئن ومستبشر وآمن من كل ما يخاف منه الآخرون، فهو آمن على رزقه حيث
يوقن بأنه بيد الله وحده الرزاق ذي القوة المتين، وآمن على أجله حيث يعلم أنه بيد الله
المحيي المميت ولن يتقدم أو يتأخر لحظة عن الوقت المحتوم، ولن تموت نفس حتى تستكمل
رزقها وأجلها وآمن مما يخبئه المستقبل لأنه واثق بحسن تقدير الله له، وأن أمر المؤمن
كله خير كما قال ^: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن
أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له»([46]).
وهذا الأمن المتحقق
للمؤمن يحصل هاهنا في الدنيا أولا ثم يبلغ تمامه وكماله في الآخرة حيث ينتفي كل ما
يضاد الأمن من خوف أو حزن أو هم أو فزع
ولا شك أن كل أمن
يناله أفراد المجتمع المسلم تتجلى آثاره على المجتمع ككل حيث يأمن كل فرد فيه على نفسه
وماله وعرضه وقد جعل الله نعمة الأمن من النعم العظيمة التي امتن بها على قريش ، ودعا
إبراهيم عليه السلام أن يجعل مكة بلدا آمنا فقال: ?ٹ ٹ ٹ ٹ ?? [إبراهيم:
35]، وقال النبي ^ في بيان عظم شأن نعمة الأمن وأهميتها: «من أصبح منكم آمنا في سربه
معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»([47]).
إرسال تعليق