الحكمة من مشروعية الاستئذان:
ما من ريب أن الأهداف الاجتماعية ترمي إلى أهداف
سامية
وفي سنها أحكام وحِكم يدركها المتفقهون. والتشريعات
الإسلامية
على الجملة تتوخى في شموليتها إسعاد اﻟﻤﺠتمع الإسلامي
وبناءه على
نحو فريد ليكون مجتمع إيمان وِبرّ وتقوى، متميزًا في خصائصه
ُ كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْ ِ رجَتْ لِلنَّا
ِ س : وسماته وأحوالها كلها. قال تعالى
آل عمران: ] تَأْمُرُون بالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْن عَن الْمُنْكر
وَتُؤْمِنُون باللَّهِ
١١٠ ]. وإن نظرة متأنية
إلى أسرار أدب الاستئذان تكشف عن
حِكمه وواقعيته، فالإنسان ذو غرائز وشهوات وميول
ورغبات
وليس كل أحد يمتنع عن إرسال شهواته ومسبباﺗﻬا بدافع
الضمير
الإنساني أو بدوافع المروءة والنخوة كما يمتنع بالوازع
الإيماني،
والشريعة الإسلامية ذات أحكام ميسرة ونظرات بعيدة
متعمقة فإﻧﻬا
إذا حرّمت شيًئا تحرم كل سبب ودا ٍ ع يؤدي إليه.
فالإسلام مث ً لا حينما حرم الزنا حرم دواعيه من
النظر والخلوة
والتبرج وكل ما يؤدي إلى الزنا، وكذلك حرم الغناء
-أيضًا - لما
ذكر بعض أهل العلم من أن الغناء بريد الزنا، فنظرة
الإسلام بعيدة
ومتعمقة لا يدركها كل إنسان.
والاستئذان أدبٌ رفيع يحفظ للبيوت حُرماﺗﻬا، وإﻧﻬا
لحرمات
عظيمة تطويها بيوت المسلمين، وأي حرمة أعظم من هذه
الحرمة
يهدر عينَ من ا ّ طلع على دار قوم بغير إذﻧﻬم، التي تجعل المصطفى
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
أن النبي،
لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت
» : قال
.(١)« عينه؛ لم يكن عليك جناح
فالاستئذان يحقق للبيوت حرمتها، ويجنب أهلها الحرج
الواقع
من المفاجأة والمباغتة والتأذي بانكشاف العورات،
والعورات كثيرة
تعني غير ما يتبادر إلى الذهن، فليست عورة البدن
وحدها وإنما
يُضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات
الأثاث التي
لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون ﺗﻬيؤ وتجمُّل
وإعداد،
وهي عورات المشاعر والحالات النفسية، فكم منا من
لا يحب أن
يراه أحد وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر أو
يغضب لشأن
.( مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء( ١
ومن حِكم الاستئذان صيانة المرأة المسلمة عن التبذُّل،
دون أن
يراها أحدٌ غير مَحرم، ومن تأمل سورة النور وترتيب
موضوعاﺗﻬا
وجد أن آيات الاستئذان جاءت بعد تقرير حدّ الزنا
والقذف
والوقاية منهما.
ويقول الشوكاني -رحمه الله - في صدد هذا الموضوع:
لما فرَغ
-سُبحانه- من ذكر الزجر عن الزنا والقذف، شرع في ذكر الزجر
عن دخول البيت بغير استئذان؛ لما في ذلك من مخالطة
الرجال
بالنساء، فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين.
اه( ٢). فأدب
الاستئذان متضمن لقطع ألسنة السوء من مظنة الريبة، فإذا دخل
امرؤ بيتًا بلا استئذان وكان ذلك مباحًا، فقد يراه
حال دخوله أو
حال خروجه من يتهمه ويتهم أهل البيت المدخول عليهم
بما لم
يخطر ببال.
فلا يجوز لأي إنسان الدخول في هذه الأوقات إلا بإذنٍ؛
وذلك لأنه وقتٌ يأوي فيه الناس إلى أزواجهم، وتنزع
فيه الثياب،
وقد يحصل بين الأزواج ما يحصل، فالدخول محظور حتى
على
الصغار والمماليك؛ لكي لا تقع أنظارهم على عورات
أهليهم، وهذا
أدبٌ قد يغفل عنه بعض الناس فيعتقد أن المملوك والصغير
لا تمتد
أعينهم إلى ساداﺗﻬم وأهليهم، وهذا اعتقاد خاطئ،
بل إنه قد ثبت
لدى علماء النفس أن ا ّ طلاع الصغير على بعض المشاهد
له تأثير في
حياته النفسية، وقد يؤدي إلى أمراض عصبية.
هذا ما جادت به النفسُ وأمكن تسطيره حول الحكمة
من
مشروعية الاستئذان وإن كان جهدًا يسيرًا، لكن لو
لم يأتِ في
حكمة الاستئذان إلا أنه أمرٌ من الله ورسوله لكفى؛
لأنه يغنينا عن
البحث عن الحكمة، والله أعلم.
Post a Comment