هل يمكن اعتبار الفلسفة معجزة يونانية 
يرتكز القول بأن الفلسفة هي نتاج غربي خالص على أطروحة أساسية هي أطروحة المعجزة اليونانية التي تفيد بأن الأغريق ، دون شعوب العالم القديم ، حققوا ، نتيجة عوامل عرقية أو ثقافية ، نقلة نوعية رفعت التفكير من مستوى الأسطورة إلى مستوى العقل المجرد. من صفات المستوى الأخير اندماج العقل في المعقول وليس في قوى الطبيعة العمياء كما كان حاصلاً من قبل ، والجمع بين وظيفة إدراك العالم عقلياً وبين ارتداد العقل على نفسه مفكّرا في عدته ومفاهيمه بصورتها المجردة .
لا ريب في أن البعد التقني المتمثل في المنطق والتحليل النقدي للمفاهيم والأسئلة يشكّل أهم سمة للفلسفة اليونانية والغربية ، والتقليل من قيمة هذا البعد قد يكون مفيداً لبلورة مفهوم أوسع للفلسفة يشمل التفكير النظري المتحقق في الحضارات الأخرى من هندية وصينية وأفريقية . لكن نكرانه ، كرد فعل على المركزية الأوروبية وما ينجم عنها من تفوق واستعلاء ، يرتقي إلى سلب الفلسفة اليونانية ، التي تشكل واحدة من دعائم الحضارة الغربية ، من أبرز عناصر اختلافها عن نظيراتها في العالم .
وسندخل حينئذ في تقييمات اعتباطية لما هو أصيل ومميز في هذه الحضارة أو تلك . لذلك لا بد من تعيين اختلافات التفكير من حيث درجة التعقيد والتجريد ، على أن يتم تفسيرها بطريقة سياقية تتجنب الأحكام المسبقة والتعميمات غير التاريخية . إن أطروحة المعجزة اليونانية تؤدي ، من ناحية ، إلى مغالطة إذا ما أريد لها أن تكون دليلا لتمييز جوهري ثابت وقاطع بين التفكير التحليلي العلمي والتفكير التركيبي الأدبي أو الأسطوري . ووجه المغالطة هنا لا يكمن في القول بأن فلاسفة اليونان قبل سقراط وبعده حاولوا فعلا التفكير بمباديء الكون وأسبابه بحثاً عن المبدأ الأول والعلة الأولى المحرّكة لنظام العالم، وإنما جعل في ذلك حكراً خاصا بهم ، ولمن اقتفى خطاهم حتى يومنا هذا ، دون سواهم من مفكّري وحكماء الصين والهند وبلاد فارس .
حقاً أن العقل والعلم شكلا السمة الغالبة للحضارة اليونانية ، وأن الحكمة والتنظيم شكلا السمة الغالبة للحضارة الصينية ، وأن التأمل والدين شكلا السمة الغالبة للحضارة الهندية ، لكن ، بجانب نقاط التمايز هذه ، كانت هناك نقاط تشابه. ينبغي للمرء أن لا ينسى ، مثلا ، أن سقراط وكونفوشيوس وبوذا ، الذين عاشوا في فترة متقاربة نسبياً بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد ، جمعهم همّ واحد هو الاشتغال على موضوعات الحكمة والفضيلة والأخلاق العملية . وهذه موضوعات فلسفية تعادل، إن لم تفق ، في أهميتها الموضوعات التقنية والتخصصية الدقيقة في الجامعات الغربية.

Post a Comment

Previous Post Next Post