فارس بني عبس

(1) إنْ تُغْـدِفِي دوني القناع فإنـني **  طَـبُّ بِأخْذِ الْـفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
(تغـدفي دوني القناع) كناية عن صفة عدم المبالاة ، أوعدم الاحترام. (طب باخذ الفارس المستلئم) كناية عن صفة الشجاعة ، والخبرة بفنون الحرب، وفي وصف الفارس بالمستلئم اعتزاز بالنفس من قِبلَ الشاعر، ومن قراءة الكنايتين مرتبتين بالشرط ؛ تحس عتاباً خفيفاً من الشاعر؛ لمحبوبته وهو ما جعل عنترة يمزج غزله بالفخر ، (إنَّ) حرف توكيد ونصب ؛ لذا ضرب الخبر طلبي ، ولجأ إليه الشاعر؛ ليزيل أيَ تردد في نفس عبلة؛ وليؤكد في نفس الوقت أنه لايصل حد الإنكار. والغرض من إلٌّقائه هو الفخر ، ويفخر عنترة- هنا-بشجاعته أمام عبلة؛ لينال إعجابها .
نثر البيت : إن أبديت عدم مبالاة بي ؛ بأنْ أرخيت قناعك بيني وبينك، فأظنك خاطئة ، ولم تقدري الأمر تقديراً سليماً ؛ فأنا استحق منك احتراماً ، وإعجاباً ؛ لأني ماهر بالانتصار على الفرسان كاملي العتاد؛ وبالتالي قادر على حمايتك ، وجدير بحبك .
(2) أثْنِيْ عَلَـىَّ بِمَا عَـلِمْتِ فَإِنَّنِيْ **    سَـمْحٌ مُخَاْلَـقَتِيْ إِذَا لَـمْ أُظْـلَمِ
(أثني)الأمرغرضه الالتماس. وطلب الثناءمنها يدل على شدة الحب.(بما علمت) توحي بثقة الشاعر في نفسه.(إنَّ) حرف توكيد ونصب ، وضرب الخبر طلبي ، والغرض من القائه الفخر. وفي المزاوجة بين الخبر والإنشاء جمال لا يُخْفَى .(أظلم) حذف الفاعل بغرض التركيز على الفعل. كماحذف جواب الشرط، وفي ذلك تأكيدعلى أهمية إحساس عنترة بالظلم .
نثر البيت : اذكري محاسني ، وامدحيني ياعبلةُ ؛ فأنا - كما تعرفين ما لم أتعرض للظلم ، سهل المعاشرة ، طيِّب السريرة ، ما لم يجرؤ أحدٌ  على ظلمي .
(3) فَإِذَا ظُلِمْـتُ فَإِنَّ ظُلْـمِيَ بَاسِلٌ **مُـرٌّ مَـذَاقَتُُهُ كَـطَعْمِ الْعَـلْـقَـمِ
(ظلمي) مجاز مرسل ؛ فالمراد ردِّي على الظلم ، والعلاقة سببية، والقرينة حالية . وقد وصف ردَّ الظلم بأنَّه باسلٌ ، ومرٌّ (استعارة مكنية) ، ووضَّح مقدار مرارته بالتشبيه (مذاقته كطعم العلقم) تشبيه مفرد ، وهذا الردُّ العنيف يكشف نفسية عنترة الذي عانى من الاضطهاد. البيتان (2 ، 3) يشبهان قول الشاعر:
   أنا كالماء إنْ رضيت صفاءً **        وإذا ما غضبت كنت لهيباً      
ووجه الشبه بينهما في التقابل بين الحالتين ، الغضب والرضا ، أو الظلم وعدمه . (ظلمت) حذف الفاعل ؛ بغرض التركيز على الفعل دون الفاعل ، وفي ذلك إيحاء بشجاعته ، التي تجعله يردُّ هذا الردَّ غضَّ النظرعن الظالم ، وربما تلمح فيه تهديداً لعبلة .
نثر البيت : إذا ما تعرضْتُُ لظلم مِنْ كائنٍ مَنْ كان فإنَّ ردِّي على ذلك سيكون كريهاً، لا يطاق ، مراً ، يعادل في مرارته تذوق طعم الحنظل .
(4) هَلا سَأَلْتِ الْـخَيْلَ يَا ابْـنَةَ مَالِكٍ **  إِنْ كُنْتِ جَـاهِلَةًًًً بِمَا لَمْ تَعْـلَََمِي
(هلاّ) أداة تحضيض ؛ - وهو طلب بالحاح - وفي استعماله إيحاء- من عنترة- بثقته الزائدة في نفسه، وقوة انفعاله . (الخيل) مجاز مرسل ؛ إذ يقصد الفرسان، وعلاقته المحلية ، وبلاغته في إيجازه ، وإشارته إلى أنّ مَنْ يعرفونه هم رُكَّاب الخيل. (ابنة مالك) كناية عن موصوف هو( عبلة) وفيه توقيرواحترام ، وفي الشرط تحسُّ بالعتاب لعبلة ؛ أي إنْ ادعيْتِ عدم المعرفة ؛ فالأمر مشهور بين الفرسان . والإجابة التي يتوقعها الشاعر من الفرسان هى: أنْ يقولوا : لم نجد أشجع من عنترة . وهويشيرفي ذلك إلى قوله في موضع آخر : 
     وَلَقَدْ شَـفَى نَفْسِيْ وَأَبْرَأَ سَقْمَهَا** قِيْلُ الْـفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَةَ اقْدَمِِ
نثر البيت : يا بنة مالك ، إِنْ ادعيتِ عدم المعرفة بشجاعتي ، وبطولتي- في المعارك - المشهورة بين الفرسان الذين يخوضون الحرب؛ فإنِّي أصرُّ وألحُّ عليك أَنْ تسأليهم .
(5) إِذْْ لا أَزَالُُ عَلَى رَحَالَةِ سَابِـحٍ **        نَهْـدٍ تَعَـاوَرَه الْكُمَـاةُ مُكَـلََّّمِ
(سابح) صفة لموصوف محذوف ، بغرض تقوية الوصف ، كذلك نهدٍ . (تعاوره الكماة) كناية عن صفة الجَلَد والصبر. وفي استعمال الفعل (تعاور) -على وزن تفاعل- إضافة بلاغية ، توحي بأهمية ، وشجاعة عنترة في المعركة قوله :      
  يدعون عنتره والرماح كأنها   **   أشطان بئر في لبان الأدهم
مصوراً الرماح ، كما حبال البئر المتدلية التي تأخذ الدماء من جسد حصانه . وهو يشبه قول امرئ القيس (راجع الجواد الأصيل تجد مقارنته) في بيته الأول ؛ لصمود حصانه خصوصاً- مع استعمال (لا أزال) ، التي تفيد الاستمرار. مكلَّم أقوى دلالة من مكلوم ؛ لأنها تشير إلى الكثرة ، والكثرة بدورها تؤكد الجلد والصبر .
نثر البيت : لسان حالي يقول -على الدوام وباستمرار : أنا ممتطٍ جوادي ذاك السريع ، الذي يطير في الفضاء ، والضخم الجَلِد الذي يصمد أمام الأعداء ، رغم أنَّ الفرسان يتبادلونه بالطعن ، ويجرَّحُوْنُهُ جروحاً غائرة كثيره .
 (6) طَوْرَاًً يُجَـرَّدُ لِلْطِّعَـانِ وَتَارَةًً **    يـَأْوِي إِلَى حَـصِدِ الْقِسِي عَرَمْرَمِ
(يجرد) حذف الفاعل ؛ للعلم به . ( يجرد للطعان ) كناية عن الهجوم والإقبال على الأعداء (الكرّ) . (يأوي إلى حصد القسي) كناية عن التراجع والاحتماء(الفر) . ومنها تصل إلى أنَّ فرسه يجيد الكرَّوالفرَّ. (حصد القسى) مجاز مرسل ، علاقته الحالية ؛ فالمراد قومه ، فأشار إلى ما يحملونه وهو القسي . وهو الموضع الوحيد- في هذه الأبيات - الذي يشير فيه الشاعر إلى قومه مفتخراً .
نثر البيت : حيناً يُهيأ فرسي لمواجهة الأعداء ، ومقاتلتهم فاركضُ به ، وحيناً - لمقتضيات المعركة  - ألوذ بقومي أصحاب النبال الكثيرة ؛ فاعود أكثر قوة .
(7) يُخْبِرْكِ مَنْ شَـهِدَ الْوَقِيْعَةَ أَنَّنِيْ  **  أَغْشَى الوَغَى وَأَعَفُُّّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ
(يخبرك) جواب الطلب في البيت الخامس . (من شهد الوقيعة) دلالة واضحة على الشهرة ؛ لذا استعمل اسم الموصول مَنْ الذي يفيد العموم. (أنَّ) حرف توكيد ونصب ؛ لذا ضرب الخبرطلبي . ( أغشى الوغى وأعف عند المغنم) تشير إلى ترفع عنترة ، وإبائه ، وربما يودُّ أنْ يقولَ :{ما لهذه المنافع أخوض الحرب}. وهو يشبه مدح الرسول (ص ) للأنصار حين قال لهم : "إنَّكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع " .
نثر البيت : متى ما سألتِ فإنَّ كل مَنْ حضر المعركة ، وشارك فيها ، يعرف بأنَّي شجاع ، أخوض غمار المعركة ، وعند توزيع المغانم والفئ أترفع عن ذلك ؛ لأنَّ هذا ليس هدفي ، فسيخبرك الجميع بذلك .
(8) وَمُدَجَّـجٍ كَـرِهَ الْكُمَاةُ نِـزَالَهُ **  لا مُمْعِـنٍ هَـرَبَاًً وَلا مُسْـتَسْلِمِ 
 (مدجج ) تشير إلى استعداد الفارس ، مقابل ( مقاتل ) التي قد لا تعني الاستعداد . ( كره الكماة نزاله ) كناية عن صفة الشجاعة ، والهيبة . والبيت مدح لفارس ينازله عنترة، وفي مدحه تعظيم لشأن الانتصار عليه . (الشطر الثاني ) تستشف منه جَلَدَ الفارسِ ، وصبره ، وإجادته الكرَّ والفرّ َ.
(9) جَـادَتْ لَهُ كَفِّـي بِعَـاجِلِ طَعْنَةٍ ** بِمُثَقَّـفٍ صَـدْقِ الْكُعُوْبِ مُقَـوَّمِ
(كفي) مجاز مرسل علاقته الجزئية ؛ إذ أطلق الجزء (الكف) وأراد الكل(نفسه) . (عاجل طعنة) قدَّم الصفة على الموصوف ؛ لبيان أهمية الصفة . كذلك في قوله (صدق الكعوب) . (بمثقف) صفة لموصوف محذوف ، بغرض ؛ تقوية الوصف . (جادت) توحي بترفع عنترة ، وكأنَّما يمنح مَنْ يقتله شرفاً إضافياً بقتله إياه ، ووصف الطعنة بانَّهاعاجلة يتناسب مع ما ذُكِرَ في البيت السابق ، من صفات لهذا الفارس . وصفات الرمح ، مثقف (مسنون) ؛ حتى ينفذ بسرعة إلى جسم العدو، (قوي المقابض) ؛حتى لاينكسر ، (مقوَّم) ؛ لكي يصل سريعاً .
(10) بِرَحِيْبَةِ الْفَرْغَيْنِ يَهْدِي جَرْسُهَا **  بِالْلَيْلِ مُعْتَسَّ الـذِّئَابِ الضُُّرَّمِ
(رحيبة الفرغين) استعارة تصريحيه ؛ إذ شبه فتحة الجرح - الذي أحدثته الطعنة - بفم الدلو الواسع الذي يتدفق منه الماء، - وهنا يتدفق الدم - وحذف المشبه ، على سبيل الاستعارة التصريحية ، والقرينة حالية . ولقد بالغ في وصف تلك الفتحة بالعمق ؛ للدرجة التي جعل تدفق الدم له صوتاً عالٍياً ، يهدي الذئاب الجائعة التي تأتي ليلاً ؛ مما يعني بأن الدم ظلُّ ينسكب غزيراً إلى الليل .(معتسَّ الذئاب) قدم الصفة على الموصوف ؛ لبيان أهمية الصفة ، والتركيز عليها، ومن المشهد يمكننا الاستنتاج ؛ بأن الفارس المقتول كان ضخماً جداً ؛ مما يقوي فخر عنترة بالانتصار على أمثال هؤلاء الفرسان الشجعان  .
نثر الأبيات :  (8-9-10) : رُبَّ فارس كامل العتاد والعدة ، شجاع يكره الفرسان مبارزته وقتاله ، يتميز بكونه لا يتراجع عن عدوه ، صُلْب جلد لا يستسلم لمبارزه أبدا،ً فما كان مني إلا أنْ منحته شرف أن يموت على يديّ ، مستعملاً في ذلك رمحي الحاد ، المسنون ، الذي ينفذ إلى جسم الخصم ، ذا المقبض القوي الذي لاينكسر ، والمعتدل الذي يصل سريعاً إلى جسم الخصم ، في طعنةٍ نافذةٍ ، سريعةٍ محدثةٍ جرحاً عميقاً، ظلََّّ الدمُ يتدفق منه ، كأنَّه فما دلوَيْنِ واسعينِ ، مُصدِرين صوتاًً عالياً حتى الليل ؛ يرشد الصوتُُ الذئابَ الجائعة ، الحائمة ليلاً - يدعوها إلى وجبة شهية ، دسمة ، تسدُّ رمَقَها .



تعليق عام

بعد الرجوع إلى تعليق الكتاب يمكن القول :
(1) نلاحظ أن فخر عنترة فخر فردي ، وليس بقومه ؛ وذلك ناتج من إحساسه بالاضطهاد ؛ ولأنَّ هدفَ الفخرِ هو الغزل ، والمحبوبة ابنة عمه .
(2) ركَّزَ عنترة على فكرة رفض الظلم تركيزاً واضحاً ، يَنِمُّ عن رفض عنترة الشديد للظلم الذى عانى من ويلاته .
(3) العاطفة  القوية - التى  تظهر في القصيدة - هي التي جعلت الأسلوب  سهلاً وسلساً .

Post a Comment

Previous Post Next Post