معايير تحديد المنازعة الإدارية:
تطورت معايير تحديد المنازعة الإدارية بتطور القضاء الإداري ذاته، فتنوّعت وتعددت وفقاً لتطور ذلك القضاء، ومن هذه المعايير ما يلي:

أولاً: المعيار العضوي:
وهو المعيار الذي لجأ إليه مجلس الدولة الفرنسي، لحماية الإدارة من تدخل القضاء العادي في شؤونها ومنعه من عرقلة نشاطها، وبمقتضاه يخرج عن اختصاص القضاء العادي كل عمل صادر عن سلطة إدارية مهما كان موضوعه تحقيقاً لاستقلال الإدارة التام في مواجهة المحاكم العادية[1].

وقد انتقد هذا المعيار نظراً لوجود منازعات تكون الإدارة طرفا فيها إلا أنها لا تعتبر منازعات إدارية كونها تتعلق بنشاط غير إداري، الأمر الذي اقتضى البحث عن معيار موضوعي لا يقوم على أساس شكلي مما أدى لظهور معايير أخرى.


ثانياً: معيار الهدف:
ومضمونة أن إذا كان العمل موضوع المنازعة يستهدف المصلحة العامة فهو من الأعمال الإدارية التي تخضع لقواعد القانون الإداري، ويختص بها القضاء الإداري دون القضاء العادي، وعليه فلا يكفي لاعتبار المنازعة إدارية أن يكون أحد طرفيها جهة إدارية، بل يلزم أيضاً أن يكون الهدف من العمل الإداري هو تحقيق المصلحة العامة.

وقد انتقد هذا المعيار لنظراً لغموض فكرة المصلحة العامة ومرونتها، وضرورة وجود معيار لها[2].

ثالثاً: معيار أعمال الإدارة العامة:
يقوم هذا المعيار على أساس أن الإدارة تقوم بنوعين من الأعمال:
الأول: أعمال السلطة التي تتجسد في التصرفات الصادرة من الهيئات الإدارية المختلفة بإرادتها المنفردة والمتضمنة أوامر ونواهي ملزمة للأفراد، مما يتعين معه أن تخضع لرقابة القضاء الإداري.

والثاني: يتمثل في أعمال الإدارة المالية أو العادية التي تمارسها الإدارة بنفس أساليب الأفراد دون استخدام سلطتها العامة بصفتها شخصاً عادياً، وبالتالي فليس هناك مبرر لإخضاعها لرقابة القضاء الإداري، ويختص بنظر المنازعات المتعلقة بها القضاء العادي[3].

وقد انتقد هذا المعيار لأنه يؤدي إلى خروج كثير من أعمال الإدارة المختلطة التي تكون من طبيعة الأعمال العادية وتتضمن بعض عناصر السلطة العامة الآمرة كالعقود الإدارية من اختصاص القضاء الإداري، فضلاً عن صعوبة تطبيقه من الناحية العملية نظراً لصعوبة التفرقة بين أعمال الإدارة[4].

رابعاً: معيار المرفق العام :
يقوم على ارتباط اختصاص القضاء الإداري بفكرة المرفق العام، الذي تنشئه الدولة وتقوم بتنظيمه وتسييره بهدف تقديم النفع وتحقيق المصلحة العامة.

وقد تكونت مدرسة المرفق العام بزعامة العميد ليون ديجي الذي جعل من المرفق العام محور ارتكاز لجميع نظريات ومبادئ القانون الإداري وجعل القانون الإداري قانون المرافق العامة وحدد اختصاص القضاء الإداري بالمنازعات المتعلقة بنشاط وإدارة المرافق العامة[5]

وقد اُنْتُقِدَ هذا المعيار نظراً لأن فكرة المرفق العام غامضة وغير كافية لكي تكون معياراً في تحديد المنازعة الإدارية، فضلاً عن كونها لا تستوعب كل مظاهر النشاط الإداري الذي لا يقتصر على إدارة المرافق العامة، فوجود المرفق العام لا يعد الشرط الوحيد أو الضروري لتطبيق القانون الإداري
[6].

خامساً: معيار السلطة العامة :
يقوم على تغليب الوسائل على الأهداف، وذلك على نقيض معيار المرفق العام الذي رجّح الأهداف، وقد تضمن هذا المعيار عنصرين: نشاط السلطة التنفيذية، واستخدام السلطة العامة، حيث يترتب على العنصر الأول استبعاد نشاط الأفراد ونشاط السلطتين التشريعية والقضائية (أعمال الحكومة) ويحدد العنصر الثاني اختصاص القضاء الإداري ومجالات تطبيق أحكام القانون الإداري كما هو واضح بالنسبة للضبط الإداري، وعند استعمال هذه الأساليب في مجال المرافق العامة والعقود الإدارية، وبالتالي يخرج من اختصاص للقضاء الإداري إدارة الدولة لأملاكها الخاص، وعقود الإدارة التي لا تستخدم فيها أساليب السلطة العامة، وإدارة المرافق العامة الصناعية والتجارية.

وقد أوضح العميد موريس هوريو مؤسس معيار السلطة العامة بأن السلطة العامة كأساس للقانون الإداري، وتحديد اختصاص القضاء الإداري لا تقتصر على الأوامر والنواهي كما في معيار أعمال الإدارة، وإنما تشمل جميع الأعمال الصادرة من الإدارة التي تستخدم فيها الامتيازات المقررة للسلطة العامة[7].

سادساً: المعيار المختلط:
هذا المعيار يجمع بين معيار السلطة العامة ومعيار المرفق العام، ومقتضاه أن المنازعة تعتبر إدارية إذا كانت تتعلق بنشاط المرفق العام واستخدمت الإدارة في تسييره وانجازه امتيازات السلطة العامة.

وهو المعيار الذي أخذ به الفقه القانوني الحديث، وكذا القضاء المصري، حيث قضت محكمة القضاء الإداري في مصر بأنه: "حيث أن الرأي الذي استقر عليه قضاء مجلس الدولة ومحكمة التنازع في فرنسا مدة طويلة حتى الآن. وهو ما يتعين الأخذ به في مصر، هو أن المنازعة تكون إدارية وتدخل في اختصاص مجلس الدولة إذا توافر فيها عنصران الأول اتصال المنازعة بسلطة إدارية، أي تكون السلطة الإدارية أحد الخصوم في الدعوى كمدعي أو مدعى عليه، والثاني هو اتصال المنازعة بنشاط مرفقي تباشره السلطة الإدارية بوسائل القانون العام؛ أي أن يكون موضوع المنازعة المطالبة بأثر من الآثار المترتبة على علاقة من علاقات القانون العام
[8].

وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا ما استقر عليه القضاء الإداري حيث قضت بأن:
 " حيث أن المنازعة الإدارية هي إجراءات الخصومة القضائية بين الفرد والإدارة والتي ترفع لمطالبة بحق من الحقوق الناتجة عن تسيير الإدارة للمرافق العامة التي تدار وفقاً للقانون العام، وأساليبه ويتبدى فيها واضحاً وجه السلطة العامة ومظهرها ويكون القانون العام هو الواجب التطبيق على المنازعة[9]".


[1] محمود سامي جمال الدين، المبادئ الأساسية في القانون الإداري لدولة الإمارات، دار القلم، الطبعة الثانية1990، ص17، 18.
[2] محمود سامي جمال الدين، المرجع السابق، ص 18.
[3] عبدالغني بسيوني، القضاء الإداري ومجلس شورى الدولة اللبناني، الدار الجامعية، سنة1999، ص195.
[4] عبدالغني بسيوني، المرجع السابق، ص196، ناجي محمد الشنب، دراسات قانونيه في التحكيم الدولي، التحكيم في العقود الإدارية في القانون، صفحة الدكتور في facebook، على الرابط https://www.facebook.com/permalink.php?id=582619868416621&story_fbid=582924578386150
[5] عبدالغني بسيوني، المرجع السابق، ص197.
[6] محمود سامي، المرجع السابق، وناجي محمد الشنب مرجع سابق.
[7] عبدالغني بسيوني، المرجع السابق، ص199، 200.
[8] الحكم الصادر بجلسة 25/4/1977 من الدائرة الاستئنافية، في الطعن الاستئنافي رقم 211.
[9] الحكم المحكمة الصادر في الطعن رقم 2094 لسنة 30 ق، جلسة 24/11/1985.

Post a Comment

Previous Post Next Post