مفهوم التعددية
يعود
أصل التعددية للدلالة إلى"عدَ"
وتعني حسب وأحصى و" عادًهُ" معادَادَا و عداداً: فاخره في العدد وناهضة
في الحرب، و"عَددَّ" الشيء وأحصاه و"عَدَّدت" الشيء جعلته ذا
عدد" تَعَاد" القوم: عدَّ بعضهم بعضاً. "تَعدّدت" صار ذا عدد.
والعديدّة": الحصة والنصيب. ويتضح من المعاني السابقة أن الكلمة تعني عدم
التفرد، كما تحمل مضامين نفيسة ممثلة في التفاخر والمعادة، وكذلك تتضمن معنى القدم
والاستمرارية حتى يعتد بها.[1]
والواضح من هذه المعاني سالفة الذكر، أن المعني اللغوي يحمل في طياته بعض
الملامح الوصفية لحقيقة التعددية من حيث أنها تعني عدم الواحدية، أو التفرد، وذلك
لأن أصل العد وجود الشيئ القابل للإحصاء قل أو كثر، بما يعني أن هذا الشيئ ليس
منفرداً، أو وحيداً، وإلا ما قبل العد والإحصاء وتحمل مشتقات الجذر اللغوي بعض
المضامين النفيسة ممثلة في عمليات التفاخر والمعاداة التي تتسم بها المجتمعات
البشرية التعددية لأسباب عديدة نذكرها فيما بعد.[2]
ولا يختلف الأمر في اللغة الإنجليزية حيث تعني
كلمة Pluralism أن هناك تعدداً
وعدم أحادية في الأصعدة المختلفة
.[3]
على الصعيد الاصطلاحي، تتعدد التعريفات المقدمة لمفهوم التعددية، فيذهب
معجم المصطلحات الاجتماعية إلى أن التعددية تعني:"تعدد أشكال الروح
الاجتماعية في نطاق كل جماعة، وتعدد الجماعات داخل المجتمع وتعدد الجماعات نفسها.[4]
أما معجم المصطلحات السياسية فيعرف التعددية على أنها" من الناحية
الاجتماعية تعني وجود مؤسسات وجماعات غير متجانسة في المجتمع المعاصر يكون لها
اهتمامات دينية واقتصادية وإثنية وثقافية متنوعة، والتعددية من الناحية السياسية
تصف مجتمعاً تكون القوة فيه موزعة بصورة واسعة على جماعات متعددة مرتبة في أنماط
متنوعة للصراع أو المنافسة أو التعاون.
وتعرف الموسوعة البريطانية التعددية بأنها "الاستقلالية
التي تحظى بها جماعات معينة في إطار المجتمع مثل الكنيسة والنقابات المهنية
والاتحادات العمالية والأقليات العرقية".[5]
وتفترض التعددية
"الإعتراف بحقوق الإنسان في المجتمع وبكرامته وبرسالته مثلما تفترض الإقرار بواجباته ومسؤولياته". وعلى ذلك تعتبر التعددية
"أحد شروط
الممارسة الديموقراطية وبالتالي فهي تتعارض تعارضا تاما مع وجود الدولة الشمولية بل تفترض قدرا
من الحياد من قبل السلطة العليا – أي الدولة – التي ينبغي أن تحترم القوى
والمؤسسات التي تعمل في إطارها على تعميق الخير العام للبلاد".[6]
كذلك تشير التعددية السياسية إلى
المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية التي يمكنها أن تشارك في مزاولة
السلطة.[7]
أما قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيعرف التعددية على
أنها عبارة عن" تنظيم حياة المجتمع وفق قواعد عامة مشتركة تحترم وجود التنوع
والاختلاف في اجاهات السكان في المجتمعات ذات الأطر الواسعة، وخاصة المجتمعات
الحديثة حيث تختلط الاتجاهات الأيديولوجية والفلسفية والدينية".[8]
وعلى
جانب أخر يشير الدكتور جابر سعيد عوض[9] إلى
مفهوم التعددية بشكل معمق في خمسة أنماط في شرح المفهوم. فهو يعتقد، أولا، بأنه
يعد مفهوما عاما قابلا للتطبيق على كافة المجتمعات
والنظم المعاصرة باعتباره تعبيرا عن ظاهرة عامة وشائعة الانتشار. فكل
الأنظمة التي يعرفها عالمنا المعاصر هي إلى حد كبير تعددية رغم تباين صورها
واختلافها في بعض الأحيان اختلافا كليا عن بعضها البعض، ثم يعتقد، ثانيا، أن
التعددية مفهوم مطاط، ليس فقط لكونه تعبيرا عن ظاهرة عامة، بل أيضا
لتباين تطبيقاته واستخدامه في كثير من الأحيان للإشارة إلى حالات وأوضاع
متناقضة، الأمر الذي يصعب معه عزل المفهوم عن السياق التاريخي وطبيعة
التطور المجتمعي في كل حالة على حدة. وثالثا، هو مفهوم مركب بوصفه تعبيرا عن
ظاهرة متعددة الأبعاد. فهناك التعددية الثقافية والتعددية الاجتماعية والتعددية
السياسية. ورابعا،
هو مفهوم معقد بحكم كونه مركبا، وإن كان ليس كل تركيب يقود بالضرورة إلى التعقيد،
إلا أن عملية التركيب في الظاهرة التعددية جعلت من المفهوم المعبّر
عنها مفهوما معقدا، وذلك لارتباطه من ناحية بالعديد من المفاهيم الأخرى
مثل الطائفية والعرقية والدولة القومية والديموقراطية..الخ، ولكون الأبعاد
الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يقوم عليها من ناحية أخرى تتضمن
عناصر متشابكة ومتداخلة تتوقف بدورها على مجموعة كبيرة من العوامل والمتغيرات
المتفاعلة سواء في ذلك الداخلية أو الخارجية .وأخيرا
فإن
التعددية، حسب الدكتور عوض، مفهوم مراوغ بما يعنيه ذلك من
إمكانية استخدامه، على سبيل المثال، للإشارة إلى
التعددية السياسية كصيغة تهدف بالأساس إلى امتصاص السخط الشعبي، تماما
مثلما يستخدم للتعبير عن التعددية السياسية بمعناها الشامل بكل ما ترمي إليه
من الإقرار بحق كافة القوى في التعبير عن نفسها.
ويعتقد
البعض أن التعددية تختلف فيما لو كانت مفهوما، عنها لو كانت مصطلحا. ويرى البعض في
التعددية كمفهوم أنها ترادف التنوع والاختلاف. أما كمصطلح فيعتقد بعض
آخر بأنها تمثل النظام السياسي الذي له خلفية فلسفية ترتبط بإدراك دور
الدولة وطبيعة المواطنة بل وطبيعة الإنسان، ولها ملامح مؤسسية ثابتة مستقر
عليها، وتقترن بتطور اقتصادي واجتماعي محدد ومناخ ثقافي يقوم على الفصل
بين الدين والدولة، وتهدف إلى إدارة الصراع الاجتماعي. بمعنى أن التعددية
كمصطلح تعبر عن أحد أشكال الممارسة الديموقراطية. وهذا التمييز بين
المفهوم وبين المصطلح تمييز من شأنه أن يعطي ديناميكية للحياة العامة بحيث يفصل ما
بين
التنوع كأصل طبيعي وفطري في الحياة ولابد منه، وبين النظام
أو الآلية التي يجب أن تدير هذا التنوع.
ومن
خلال متابعة الأدبيات المعاصرة التي تناولت مفهوم التعددية تكشف
عن تباين واضح في الاتجاهات النظرية للمفهوم، ومن ثم تعدّد في التعريف،
غير أن هذا التعدّد من شأنه أن يمثل ركيزة متنوعة للتعامل في الحياة
العامة باعتبار أن حل مشاكل الحياة يجب أن يكون نتاج جهد بشري. فهناك
من يري، كـ" روجيه لابوانت"، أن التعددية
توجد حيثما يوجد تنوع أياً كان الشكل الذي يتخذه – ديني أو عقائدي
أو فلسفي أو طبقي أو حزبي... الخ – يتمسك به الفرد أو الجماعة. وبهذه
الصورة يتغير معنى التعددية بتغيّر الموضوع ذاته، ومن ثم تكون إيجابية
مقبولة أو سلبية مرفوضة، وذلك بسبب اختلاف القيم أو الظروف الاجتماعية
موضوع التنوّع أو التعدّد في كل حالة. فهي حين تتعلق باحترام المعتقدات
الدينية أو الأخلاقية لا تضحى فقط مقبولة بل ويجب التأكيد عليها.
غير أن النظرة تختلف حينما يتعلق الأمر بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية. وقد
تتعلق التعددية، كما يرى "جان إيفز كاليفز"، بمجال القانون
والدولة. فالدولة هي التي تسبغ الشرعية وتبررها أو ترفضها وتنحّيها
جانبا بالنسبة لوضع تعدّدي معيّن من خلال التقنين باستخدام الأداة
القانونية.وهناك من يرى التعددية، كـ"كرافورد
يونغ"، في علاقاتها بالدولة القومية ذات السيادة
والنظام السياسي القائم فيها، والذي يحدد بصورة قاطعة حدود التفاعل، بغض النظر
عن طبيعة هذا التفاعل، بين الجماعات المختلفة التي يتشكل منها
المجتمع، والتي تتباين من حيث أصولها العرقية
أو اللغوية أو الطائفية، ومن حيث أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، ومفاهيمها
السياسية[10].
وهناك
التعريف الفلسفي للتعددية، كما يرى "دنليفي وأوليري"،
الذي يستند أساسا إلى استحالة فهم الحقيقة عن طريق جوهر واحد أو مبدأ
واحد. ومن ثم فإن التعددية هنا هي الاعتقاد السائد بأن هناك أو ينبغي أن
يكون هناك تعدد في المعتقدات والمؤسسات والمجتمعات. أي انها على النقيض
من
الواحدية.[11]
ويعتبر الاقتصادي "فيرنيفال" هو أول
من صاغ مفهوم التعددية والمجتمع المتعدد في النصف الأول من القرن العشرين. ثم طور
عالم الاجتماع م.ج. سميث ما بدأه "فيرنيفال" وحاول صياغة نظرية عامة عن
" التعددية الثقافية.
قد ركز
البعض على أن مفهوم التعددية، مفهوم ليبرالي ينظر إلى المجتمع على أنه يتكون من
لروابط سياسية وغير سياسية متعددة ذات مصالح متباينة ومشروعة ومتفرقة بما يحول دون
تمركز الحكم ويحقق المشاركة في المنافع.[12]
يمكن إجمال
التعريفات المختلفة التي قدمت لمفهوم التعددية في مجموعتين أساسيتين الأولى: هي
التعريفات الشكلية التي حاولت رسم حدود للمفهوم وبيان معالمه بوجه عام وحاولت
الربط بينه التعددية والتنوع والاختلاف والربط بين معنى التعددية وبين مجال
القانون والدولة، والتفرقة بين الدور التحرري الهادف لتبرير مطالب جماعة معينة في احترام
معتقداتها في مواجهة تعسف الجماعات الأخرى، والدور السلبي المستخدم لتبرير
الاستغلال والتمييز ضد جماعة جماعة معينة دون الجماعات الأخرى. والثانية:
التعريفات الموضوعية وهي التي حاولت أن
تنفذ لصميم الظاهرة وبالتالي تنوعت بحسب موضوع التعددية وربطت بين مفهوم التعددية
وبين عملية التفاعل بين كتلتين سياسيتين واجتماعيين أو أكثر. وفي المقابل فإن
التعددية السياسية يمكن أن تكون هي ذاتها نتاجاً وانعكاساً للتعددية الاجتماعية.[13]
وتجدر في هذا السياق التفرقة بين التعدد
والاختلاف كمفاهيم، وبين "التعددية" كمصطلح سياسي في علم السياسة
الغربي الليبرالي السائد تحديدًا؛ فالتعدد –كمفهوم- يرادف التنوع والتفاوت
والاختلاف، في حين أن "التعددية" كمصطلح هي نظامٌ سياسيٌّ له
خلفية تاريخية وفلسفية ترتبط بإدراك دور الدولة وطبيعة المواطنة، بل وطبيعة
الإنسان، وصيغ العقد الاجتماعي وقضاياه ونظامه الاقتصادي.
كما أن لذاك النظام ملامح مؤسسية ثابتة
متفقًا عليها، ويقترن بتطور اقتصادي واجتماعي محدد، ومناخ ثقافي يقوم على الفصل
بين الدين والدولة، ويهدف إلى إدارة الصراع الاجتماعي الممتد دون مرجعية فكرية
واحدة تجمع الأفراد والجماعات، سوى مبدأ قبول التعدد ذاته وإجراءات إدارته، مع
تنامي الهويات الناشئة والمصطنعة، وليست المكتسبة في مواجهة مرجعيات سائدة أو
تاريخية.
ورغم أن
"التعددية" كمصطلح تعبر عن صيغة واحدة فقط هي شكل الممارسة
الليبرالية الديمقراطية الحزبية في بعض أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ورغم أن التعددية
الحزبية تحديدًا هي أحد أنماط التعددية السياسية عامة وليست النمط الأوحد..
فإن كثيرًا من الجدل الدائر على الساحة الأكاديمية والفكرية الإسلامية بشأن النظام
الإسلامي يدور حول الحزبية، ومدى موافقتها للمبادئ الإسلامية أو تفضيل فكرة أهل
الحل والعقد، دون بلورتها وتجديدها، ويصطبغ هذا الجدل بالانقسام السالف الإشارة
إليه.
ففي ناحية يقف فريقٌ يؤيد الحزبية، وآلية
الانتخابات التمثيلية، ويراها ضمانًا لتداول السلطة وعدم الاستبداد، ووسيلة لإدارة
الاختلافات السياسية، وصيانة للحقوق والحريات العامة.. وإحدى الأدوات التي نجحت في
الغرب في ضمان المساواة والحرية والتعبير عن الرأي، والرقابة على السلطة الحاكمة.
وفي ناحية أخرى يقف فريقٌ يرى الحزبية
مدخلاً للفُرقة، وتحكيمًا للقوى السياسية في مقابل تحكيم الشريعة، وسببًا لعدم
الاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية، ونظامًا غربيًّا يرتبط بالتجربة التاريخية
الغربية، في حين أنه لا يصلح في النظام السياسي الإسلامي.[14]
وعليه فإن تحليل مفهوم التعددية يقتضي على نحو
ما يرى البعض، ضرورة التعرف على عناصره
الأصلية ممثلة في خمسة عناصر هي أساس تكوين الظاهرة التي يعبر عنها وهي "
المتعدد" الذي حكمنا علية بالتعددية والذي هو مناط الإحصاء والحصر. والعنصر
الثاني من عناصر التعددية هو المتعدد فيه وهو مناط الحكم على الموضوع الذي يكون
التعدد والاختلاف حوله . والمعتد به وهو ألأدوات والوسائل والعوامل التي قادت إلى
التعدد وتسببت فيه. والمتعدد له يقصد به بيان الأهداف التي يتمحور حولها التعدد
وأدت إلى ترسيخ وجودة وتجسيده كحقيقة اجتماعية. والعنصر الخامس والأخير وهو المعتد
علية ويشير الإطار الحضاري للتعددية وقد تحدد زمنياً ومكانياً في بيئة معينة.
[2] محمد مهدي عاشور، التعددية الإثنية:
إدارة الصراعات واستراتيجيات التسوية، عمان، المركز العالمي للدراسات
السياسية،2002، ص 20.
[7] علي الدين هلال، نيفين عبد المنعم
مسعد(محرران): معجم المصطلحات السياسية، القاهرة، مركز البحوث والدراسات السياسية
بجامعة القاهرة، 1994، ص 109.
[8] سامي ذبيان (محرر)، قاموس المصطلحات
السياسية والاقتصادية والاجتماعية،لندن،رياض الريس للكتب والنشر،19990، ص ص
138-139.
[10] جابر سعيد عوض، مفهوم التعددية في
الأدبيات المعاصرة::مراجعة نقدية، بحث مقدم لندوة التعددية الحزبية والطائفية
والعرقية في العالم العربي، الكويت، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية،1993، ص15:4.
[11] نيفين عبد الخالق، الأبعاد السياسية
لمفهوم التعددية: قراءة في واقع الدول القطرية واستقرار لمستقبلها، بحث مقدم لندوة
التعددية الحزبية والطائفية والعرقية في العالم العربي، الكويت، وزارة الأوقاف
والشئون الإسلامية،1993، ص5.
أنظر
أيضا: أحمد ثابت: التعددية السياسية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1990،
ص 16.
[12] مصطفى منجود، مفهوم التعددية في الفكر
السياسي الإسلامي: رؤية منهجية في فكر الشوامخ، بحث مقدم في ندوة التعددية الحزبية
والطائفية والعرقية في العالم العربي، الكويت، وزارة الأوقاف والشئون
الإسلامية،1993،ص4.
[13] محمد
عمر مولود، الفيدرالية وإمكانية تطبيقها في العراق،العراق، مؤسسة موكدياني للطباعة
والنشر، 2003، ص ص 5-7.
Post a Comment