الغلط المادي
الغلط
هو العلم بأمر على نحو مخالف للحقيقة. ويعبر عن الغلط أحياناً بالجهل. وهذا صحيح
في الحكم القانوني، وإن كان الجهل في اللغة معناه انتفاء العلم بالأمر. وهذا ما
يجعل الجهل يختلف عن الغلط، في أن الجهل يعبر عن انتفاء العلم بأمر ما، والغلط
يعبر عن انتفاء العلم بحقيقته.
وقد
شرحنا عند دراسة العلم (كعنصر في القصد الإجرامي) الجهل في القانون، وقلنا أنه هو
الجهل بالنص القانوني. وذكرنا أن المشرع السوي استعمل اصطلاح «الغلط»، أيضاً،
حينما أضاف في المادة 222 من قانون العقوبات إلى الجهل بالقانون «تأويله تأويلاً
مغلوطاً». وهذا الموقف لا غبار عليه، لأن الجهل والغلط، وإن اختلفا لغة، فهما
يتحدان في الحكم.
أما
الغلط المادي، فهو العلم بواقعة مادية على نحو مخالف للحقيقة. كما لو وضع شخص مادة
سامة في طعام وهو يعتقد أنه يضع فيه ملحاً، وكإعطاء الممرضة للمريض جرعة من مادة
قاتلة وهي تعتقد أنها تعطيه الدواء المقرر له، وكحمل شخص حقيبة فيها مخدرات وهو
يعتقد أن فيها ثياباً.
والغلط
المادي إما أن يكون جوهرياً وإما أن يكون غير جوهري. والغلط الجوهري هو الذي يقع
على واقعة يتطلب القانون العلم بها، كطبيعة المادة السامة الموضوعة في الطعام،
وملكية المال المستولى عليه. أما الغلط غير الجوهري، فهو الذي يقع على واقعة لا
يتطلب القانون العلم بها، كظرف الليل في السرقة، وهوية المجني عليه في القتل.
والغلط
الجوهري في تقديرنا ينفي عنصر العلم، وبالتالي ينفي القصد الإجرامي. وإذا كان
الغلط الجوهري مجرداً من الخطأ، فإنه ينفي الركن المعنوي بكامله، وبالتالي ينفي
قيام الجريمة.
ولكن
المشرع السوري نهج غير هذا النهج، وعدّ الغلط المادي الجوهري مانعاً من موانع
المسؤولية (موانع العقاب). فقد نصت المادة 223 من قانون العقوبات على أنه «لا
يعاقب كفاعل أو محرض أو متدخل في جريمة مقصودة من أقدم على الفعل بعامل غلط مادي
واقع على أحد العناصر المكونة للجريمة».
ثم
بين في المادة 224، أنه «لا يكون الغلط الواقع على فعل مؤلف لجريمة غير مقصودة
مانعاً للعقاب إلا إذا لم ينتج عن خطأ الفاعل».
وللإحاطة بجميع الأحكام التي نص عليها
المشرع السوري في الغلط المادي، سوف ندرس على التوالي: الغلط الواقع على ركن من
أركان الجريمة، والغلط في ظرف مشدد، والغلط في النتيجة الجرمية، والغلط في شخص
المجني عليه.
ـ
الغلط الواقع على ركن من أركان الجريمة:
الغلط
الواقع على ركن من أركان الجريمة هو انتفاء العلم بحقيقة واقعة تدخل عنصراً في
الجريمة. كأن يحمل شخص حقيبة فيها مواد مخدرة، وهو جاهل بمحتوياتها. أو يأخذ شخص
كتاباً، وهو يعتقد بأنه كتابه، ثم يتبين له فيما بعد أنه كتاب غيره. أو يضع شخص
سماً في طعام آخر، وهو يعتقد بأنه من المواد المستعملة في الطبخ. وفي هذه الحالات
تنعدم المسؤولية الجزائية ويستفيد الفاعل من مانع عقاب، لوقوعه في غلط مادي جوهري
(م 223 ق.ع).
ولكن
المشرع السوري يعد الغلط المادي مانعاً من موانع العقاب إذا وقع في جريمة مقصودة
فقط (م223 ق.ع). أما إذا وقع الغلط على فعل مؤلف لجريمة غير مقصودة، أي كان ناجماً
عن خطأ الفاعل (نتيجة إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة)، كوضع
الصيدلي للمريض سما في زجاجة وهو يحسبه الدواء الذي وصفه الطبيب له، فإن الغلط في
هذه الحالة لا يعد مانعاً من موانع العقاب، ويسأل الفاعل في هذه الحالة عن جريمة
غير مقصودة.
ـ
الغلط في ظرف من الظروف المشددة:
إذا
وقع الغلط على ظرف من ظروف الجريمة فلا يعد الفاعل في القانون السوري مسؤولاً عن
هذا الظرف (م224 ق.ع)، فسرقة الخادم من مال مخدومه مثلاً، يعد ظرفاً مشدداً لجريمة
السرقة (م628 ق.ع)، ولكن إذا سرق الخادم مالاً وهو يعتقد أنه لشخص آخر غير مخدومه،
ثم تبين أن ما سرقه هو لمخدومه، فلا يسأل عن هذا الظرف المشدد. وكذلك إذا كان
المعتدى عليه في جريمة الاغتصاب لم يتم الخامسة عشرة من عمره، عد هذا الظرف سبباً
لتشديد العقوبة (م 489/2 ق.ع)، ولكن إذا غلط الفاعل في حقيقة سن المعتدى عليه،
وكان ظاهر الحال يوحي بأن هذا الأخير قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره، فإنه لا يسأل
عن هذا الظرف المشدد. ومن يطلق النار على شخص بقصد قتله ثم يتبين أن الجاني غلط
في شخص المجني عليه وقتل والده، فلا تطبق عليه مفاعيل الظرف المشدد للعقوبة
المنصوص عليه في المادة 535/3 من قانون العقوبات.
ـ
الغلط في النتيجة الجرمية:
يكون
الغلط في النتيجة الجرمية عند وقوع نتيجة أخرى غير النتيجة التي أرادها الفاعل.
وهذا لا يغير شيئاً من مسؤوليته إذا كانت النتيجة داخلة في قصده الاحتمالي. كمن
يضرب المجني عليه بآلة حادة في مكان غير قاتل من جسمه، فيؤدي النـزيف الشديد إلى
وفاته، دون أن يكون الفاعل قاصداً إزهاق روحه. فهو هنا لا يسأل فقط عن مجرد الجرح
الذي أحدثه الضرب، بل يسأل عن الوفاة أيضاً (م536 ق.ع). وهذه صورة من صور الخطأ
التي بحثناها في الجريمة المتعدية القصد، أو القصد المتعدي.
ـ
الغلط في شخص المجني عليه:
يقع
الغلط في شخص المجني عليه في حالتين:
1 ـ إذا أطلق الفاعل النار على شخص وهو
يحسبه زيداً من الناس، فإذا هو شخص آخر غيره.
2 ـ إذا أطلق الفاعل النار على زيد وسط
حشد من الناس فأصاب عمراً، أو أصاب زيداً وأصاب عمراً في الوقت ذاته.
وهنا
لا تعتد أغلب الشرائع الوضعية بهذا الغلط، لأنه لم يغير شيئاً من ماهية الجريمة.
فما دامت النتيجة هي إزهاق روح إنسان حي، وهي أساس جريمة القتل، فإن المساءلة
الجزائية تتحقق بمجرد حصول هذه النتيجة، وبصرف النظر عن هوية المجني عليه وشخصه.
وهذا
هو موقف قانون العقوبات السوري في المادة 205 التي جاء فيها ما يأتي:
«1ـ
إذا وقعت الجريمة على غير الشخص المقصود بها عوقب الفاعل كما لو كان اقترف العمل
بحق من كان يقصد.
2ـ
وإذا أصيب كلاهما أمكن زيادة النصف على العقوبة المذكورة في الفقرة السابقة».
ونص
هذه المادة واضح وصريح، ولا يثير أي التباس عند تطبيقه.
Post a Comment