التحكيم الدولي
التحكيم من خلال لجنة تحكيم يتفق عليها الطرفان,
أو من خلال محكم واحد
التحكيم هو تفويض يصدر من دولتين متنازعتين الى قضاة مختارين للفصل في
النزاع طبقا لأحكام القانون بقرار
ملزم للطرفين بعد فشل المفاوضات السياسية في حل
النزاع القائم بينهما. وقد عرفه الدكتور علي صادق أبو هيف على أنه " النظر في
نزاع يعرضه شخص أو هيئة يلجأ اليه أو اليها المتنازعون مع التزامهم بالقرار
الصادر"(1).
كما أن فكرة اللجوء الى التحكيم لحل النزاعات قد عرفت عند الشعوب القديمة,
كما حثت الشرائع السماوية هي الأخرى الى اللجوء الى التحكيم ، فالقران الكريم مثلا
ذكر العديد من الآيات في هذا الخصوص ومنها قوله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما
من أهلها)(2).
الا أن الكثير من الفقهاء يرى ان المعاهدة التي أبرمت عام 1794م بين
الولايات المتحدة وانكلترا والتي تقرر بموجبها انشاء لجنة للفصل في المنازعات التي
تحصل بينهما تعد أول تنظيم قانوني حديث لفض المنازعات الدولية عن طريق التحكيم(3) .
ولعل التعريف المرجح هو الذي أوردته اتفاقية لاهاي 1907 الخاصة بالتسوية
السلمية للمنازعات الدولية حيث نصت في المادة (37) منها على أن " الغرض من
التحكيم الدولي هو تسوية المنازعات فيما بين الدول بواسطة القضاة الذين تختارهم
وعلى أساس احترام القانون الدولي" (4).
(1) أبو
هيف علي صادق, مصدر سابق, 647
(2)
سورة النساء, اية 35
(3)
الناصري, د. فنر زين, دور القضاء في تسوية المنازعات الدولية, دار الشؤون
الثقافية, بغداد, 1989, ص8
(4)
العطية عصام, مصدر سابق, ص 601
من خلال هذا التعريف يمكن أن نستخلص النتائج التالية:
1- ان التحكيم هو وسيلة قضائية أقرتها اتفاقية لاهاي عام 1907 لفض
المنازعات الدولية, وهي وسيلة اساسية لاحترام القانون.
2- وسيلة التحكيم لفض المنازعات الدولية يقوم على ارادة الدول المتنازعة,
بينما التقاضي داخل الدولة يكون أساسه القانون وهو الزامي.
3- أن التسوية على أساس التحكيم, يكون على اساس وسيلة اختيارية وعلى أساس
اتفاقي, فالدول المتنازعة هي التي تختار اللجوء الى التحكيم بمحض ارادتها.
فالتحكيم كما ورد تعريفه في الاتفاقيات الدولية لا يختلف كثيرا عن القضاء
الدولي, فكلاهما طريقة قانونية لفض المنازعات الدولية التي تلجأ اليها الدول
المتنازعة اذا فشلت المساعي الودية في حلها. الا أن الفرق بينهما هو أن التحكيم
يعتمد على تشكيل هيئة تحكيمية مختارة من قبل طرفي النزاع تقوم بالتحكيم بينهما لحل
الأمور المتنازع عليها. بينما تسوية النزاع عن طريق القضاء الدولي فهو يعتمد على
ارادة طرفي النزاع من حيث ولاية القاضي, وأما بخصوص تشكيل المحكمة الدولية فيتولى
القانون الدولي تحديدها قبل اتفاق الاطراف المتنازعة على عرضها على المحكمة(1).
كما حثت عصبة الأمم الدول المتنازعة في اللجوء الى التحكيم في تسوية
منازعاتها, ففي عام 1928 اصدرت ما سمي ب(الوثيقة العامة للتحكيم) بعد أن لجأت عدد
من الدول الى عقد اتفاقيات ثنائية خاصة
بالتحكيم. والأمم المتحدة هي أيضا أولت اهتماما بقضية التحكيم بين الدول
المتنازعة, فقد قامت عام 1949 بدراسة الوثيقة التي اصدرتها عصبة الامم عام 1928,
وقد كلفت لجنة القانون الدولي في صياغة مشروع خاص بأتفاقية التحكيم الا انها
تراجعت, والمعروف أن الدول المتنازعة ترجع الى التحكيم بمحض ارادتها, فهو وسيلة
اختيارية قوامها الارادة الحرة, فكل طرف من أطراف النزاع يتمسك بحقوقه وفقا لما
يقدمه من أدلة ووثائق(2).
(1)
العطية عصام, مصدر سابق, ص601
(2)
رفعت أحمد محمد, النزاع حول جزر الخليج العربي ومتطلبات الحل وفقا للقانون الدولي,
مجلة الحق, العدد3 , السنة 26, 1995, ص80
أما التحكيم في المنازعات الحدودية, فبما أنه اجراء رضائي بطبيعته لكنه قد
يكون اجباريا اذا مانصت عليه اتفاقية حدودية كمعاهدة التحكيم بيين المانيا
وبولونيا عام 1922 بخصوص اقليم (سيليزيا), وكذلك في المعاهدة الفرنسية الألمانية
في عام 1956 بخصوص اقليم ( السار)(1).
انواع التحكيم:
أولا- التحكيم بواسطة رئيس دولة:
تكون وسيلة التحكيم بين الاطراف المتنازعة عن طريق اختيار هذه الأطراف لأحد
رؤساء الدول ليكون محكما بينهما فيما تنازعا عليه, ورئيس الدولة في هذه الحالة
يعتبر قاضيا وحيدا في فصل النزاع, ونذكر في هذا الصدد ما قام به ملك ايطاليا من
دور في التحكيم بين فرنسا والمكسيك عام 1931 في النزاع الذي نشب بينهما على جزيرة
كليرتون, وقد يكون الاحتكام احيانا الى فقيه أو دبلوماسي أو قاضي(2). وقد أتخذ هذا الاسلوب طابعين:
:- في العصور الوسطى1
عندما كان البابا والامبراطور في عهد الامبراطورية الرومانية المقدسة
والجرمانية يتنازعون السلطة السياسية في
أوربا, ففي المنازعات كان المتنازعون يلجؤون لأحدهما ويتخذونه حكما, وبهذه الطريقة
توطد التحكيم في المجتمع الدولي خاصة في اوربا(3).
(1)
روسو, شارل, مصدر سابق,ص310
(2)
القطيفي, د. عبد الحسين, دور التحكيم في فض المانزعات الدولية, مجلة العلوم
القانونية, كلية الحقوق, جامعة بغداد, العدد الأول, 1969, ص35
(3)
توفيق, د. سعد حقي, مصدر سابق , ص369
: - في عهد الاصلاح الديني2
في عهد الاصلاح الديني وانحلال الامبراطورية المقدسة التي أدت الى ازالة
سيطرة البابا والامبراطور, ونتيجة لذلك أختفت الطريقة الاولى, كما ان ظهور الدول
القومية الكبرى في القرن السادس عشر التي وطدت دولة الأمراء الذين أصبح كل واحد
منهم يتمتع بسلطة قضائية في دولته ويمارس سلطة تحكيمية واسعة.
لكن هذه الطريقة لم يطمئن اليها من ناحية نزاهة التحكيم, حيث يعاب عليها
على ان المحكم سواء كان رئيس دولة أو أمير أو ملك لم يكن متمرسا بالقضاء, ولا يكون
محايدا في احيانا كثيرة. كما القاضي ( رئيس دولة ما) ربمالا يتحمس في اصدار حكم قد
يطور فيه أحكام القانون الدولي, لأنه يخشى أن يقع يوما بين دولته ودولة اخرى نزاع
ويستشهد بأحكامه التي حكم بها بين الدولتين المتنازعتين(1).
: ثانيا – التحكيم بواسطة لجنة مختلطة
ففي هذه الحالة يمكن لطرفي النزاع الالتجاء الى جماعة تتولى مهمة التحكيم,
حيث يتفق أطراف النزاع على اختيار أعضاء هيئة التحكيم التي يطلق عليها "
محكمة التحكيم " أو "هيئة التحكيم", وغالبا ما يشترك في التحكيم
محكمين من أطراف أخرى, ويترك للمحكمين الحرية في دراسة الوثائق التي قدمها أطراف
النزاع بترو ودقة قبل اصدار الحكم في شأن القضية المتنازع عليها. وقد طبق التحكيم
هنا بواسطة طريقتين, اما عن تشكيل لجنة دبلوماسية, تتألف من عضوين يمثل كل عضو طرف
من الاطراف المتنازعة. وقد طبقت هذه الطريقة في تسوية منازعات الحدود بين انكلترا
والولايات المتحدة عام 1794 بتحديد نهر الصليب المقدس.أو عن طريق لجنة تحكيم
مختلطة ذلك اذا لم تتمكن الاطراف من اختيار المحكمين فأنه يجب ان يعين كل فريق
محكمين أثنين يجوز أن يكون أحدهما من
مواطنيها, ويختار هؤلاء معه حكما اخر, وفي حالة تعادل الأصوات يعهد الى دولة ثالثة
باختيار حاكم منها تتفق الاطراف المتنازعة على هذه الدولة
(2).
(1)
توفيق , د. سعد حقي , مصدر سابق,ص369
(2)
الفتلاوي, د. سهيل, المنازعات الدولية , مطبعة
دار القادسية, بغداد, 1985, ص149
وقد عرض على التحكيم الدولي النزاع الارتيري-اليمني على جزيرة حنيش, وهذه
الجزيرة تقع على مقربة من مضيق باب المندب, وتبعد عن الساحل الارتيري حوالي 30 ميل
وعن الساحل اليمني 28 ميل, وتبلغ مساحتها 28 كم . وقد تكونت هيئة التحكيم من خمسة
قضاة عينت اليمن أثنين وارتيريا أثنين واختير قاض خامس ليكون رئيسا للهيئة التي
كان مقرها لندن.
وتتلخص القضية بادعاء ارتيريا ملكية الجزيرة, وعلى أثر ذلك قامت في عام
1995 باحتلالها عن طريق القوة, فاستعانت اليمن بالوسائل لحل النزاع مع ارتيريا,
وقد قامت فرنسا بالوساطة بين الطرفين و أقترحت بموافقة الطرفين على عرض النزاع على
هيئة تحكيم, تقوم بترسيم الحدود البحرية بين الطرفين وتحديد السيادة الاقليمية لكل
منهما, وقد حكمت الهيئة بتاريخ 9/10/ 1995 حيث عدت أن حق السيادة على الجزيرة يعود
الى اليمن, كما اعطت الحق للصيادين الارتيريين بالصيد في المياه التي تأكدت سيادة
اليمن عليها(1).
ويرجع الفضل في تطور هذا الاسلوب من التحكيم الى
معاهدة ( Jay )
المعقودة في 19 تشرين الثاني / نوفمبر 1794 التي أبرمت بين الولايات المتحدة
الامريكية وبريطانيا لتسوية الخلافات بينهما,
ثم بعد ذلك ألفت بين الدولتين ثلاثة لجان تحكيم من سنة 1798 الى سنة 1804
أنهت بذلك جميع الخلافات المتعلقة بين الدولتين والتي كان سببها حرب الاستقلال
الامريكية(2).
ثالثا- التحكيم بواسطة محكمة:
وهذا النوع من التحكيم يقوم به اشخاص محايدون
يستمدون قراراتهم من نصوص قانونية, كما انهم يتمتعون بدراية بالعلاقات الدولية
تمكنهم من القيام بالفصل في النزاعات عن طريق الاجراءات التي يقرها القانون
الدولي.وعندما نشب النزاع بين الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والمعروف
بنزاع ( الالباما ), لجأت هذه الدول المتنازعة الى محكمة تحكيم, حيث أعتبر ذلك أول
نزاع خطير بين دولتين كبيرتين تم حسمه عن طريق التحكيم بواسطة محكمة.
(1) المجذوب, د. محمد, مصدر سابق, ص 714-715
(2) العطية, د . عصام, مصدر سابق, ص 604
وقد تألفت
المحكمة تنفيذا لمعاهدة واشنطن المبرمة في 8 ايار/ مايو 1871 , وقد صدر الحكم
بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 1872 من قبل محكمة تحكيمية مؤلفة من خمسة أعضاء(1).
وقد أعتادت الدول المتنازعة في الرجوع الى هذه
الطريقة في حل المنازعات بينهما, مما تسبب
في خلق قواعد قانونية دولية خاصة بالتحكيم مصدرها العرف الدولي حتى أطلق عليها
المهتمون بالفقة اسم ( القانون العرفي للتحكيم )(2).
محكمة التحكيم الدائمة:
لقد وجد مؤتمر لاهاي لعام 1907 أثرا
فعالا للتحكيم في فض المنازعات الدولية فقام بأنشاء محكمة بأسم(محكمة التحكيم
الدائمة) متجها بذلك نحو النمط القضائي, وكانت الحكمة في تأسيس هذه المحكمة هو
لتسهيل عملية التجاء الدول المتنازعة الى المحكمة في تسوية منازعاتها, وان محكمة
التحكيم الدائمة في الواقع هي ليست محكمة ولا دائمة وهي لاتشبه المحاكم الدولية
الدائمة من حيث التشكيل والثقل العادي المعروف للمحاكم, انما يعرض على هذه المحكمة المنازعات التي تنشب بين بعض
الدول, فينتخب قضاة التحكيم من سجل اسماء القضاة المودع في قلم الكتاب الملحق
بالمحكمة كلما دعت الظروف الى تكوينها. ويتم اختيار القضاة باتفاق الطرفين
المتنازعين. وقد عبر شارل روسو عن هذه المحكمة بقوله " ليست محكمة وليست
دائمة وهي اذا شئت محكمة عابرة ضمن ملاك دائم وهذه المحكمة ليست في الواقع محكمة
عدل,
انها مجرد لائحة تتضمن اسماء اشخاص معينين سلفا من اجل ممارسة مهام قضائية
"(3) .
(1)
توفيق, د. سعد حقي, مصدر سابق, ص290- 271
(2)
العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص605
(3)
روسو ,شارل, مصدر سابق, 314
: اللجوء الى التحكيم
لقد أقرت عصبة الأمم ميثاق
التحكيم عام 1928 بعد أن وقعت الدول الأعضاء على هذا الميثاق, والدول اليوم تفضل
أن تعقد فيما بينها اتفاقات عامة للتحكيم عندما تتعرض علاقاتهما الدولية الى ما
يشوبها من نزاعات لاسيما في تفسير معاهدة, أو تطبيق قاعدة دولية, أو نزاعات الحدود
التي تقع بين دولتين او اكثر.
وقد تتفق الاطراف المتنازعة
على عرض نزاعهما على هيئة تحكيمية قد يتم اختيارها من قبل طرفي النزاع, وتكون هيئة
التحكيم مقيدة بالقواعد التي يطلب منها الفصل فيها, فاذا كان الاطراف قد حددا في
اتفاق الاحالة على التحكيم القواعد التي يفصل بمقتضاها في النزاع تقيدت الهيئة
التحكيمية بها, والا فأنها تطبق القواعد الثابته والمتعارف عليها في القانون
الدولي العام والمبادئ الدولية المعترف بها بالاضافة الى المعاهدات الخاصة بالنزاع
بين الدولتين(1).
أما قرار التحكيم فيصدر
بالاغلبية, ويجب أن يكون مسببا ويذكر فيه أسماء المحكمين, ويوقع عليه رئيس الهيئة
والسكرتير القائم بمهمة كاتب الجلسة, وله قوة الاحكام القضائية وهو نهائي غير قابل
للطعن فيه بطريق الاستئناف. ومن القضايا التي تم التحكيم فيها قضية طابا بين مصر
واسرائيل والتي احيلت الى التحكيم واعطي الحكم لصالح عودتها لمصر في 29 أيلول /
سبتمبر 1988, واعيدت الى مصر في اذار 1989(2).
Post a Comment