اراء افكار القابسي في مجال التربية والتعليم
القابسي ، وآراؤه التربوية : أبو الحسن علي بن محمد خلف المعافري ، المعروف بالقابسي ، ( وُلِدَ 324هـ) بالقيروان ، وبها تربّى وتعلم وعلم ، وبها مات ( 403هـ) ودُفِنَ ، ويرجع نسب القابسي -على الأرجح- إلى قرية المعافرين التي ينتسب إليها ، وكانت ضاحية من ضواحي تونس .
مؤلفاته : وكان القابسي عالمًا ضريرًا فقهًا ورعًا ، وله مؤلفات كثيرة تصل إلى خمسة عشرة ، كلها في الفقه والحديث والمواعظ ، باستثناء واحد أفرده القابسي لشئون التعليم في الإسلام هي رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين ، وأحكام المعلمين والمتعلمين ، وقد صنفها في النصف الثاني من القرن الرابع ، وضاع الأصل وبقيت منه نسخة خطية فريدة ترجع إلى عام ستة وسبعمائة ، وهي محفوظة بالمكتبة القومية بباريس ، ومكتوبة بخط مغربي جميل .
وهذه الرسالة أكبر في حجمها من رسالة ابن سحنون ، وقد تأثر بما كتبه ابن سحنون ، ونقل عنه نقلاً حرفيًّا في بعض الأحيان ، كما نقل أيضًا عن فقهاء الذين أخذ عنهم ابن سحنون كابن القاسم وابن وهب إلا أن للقابسي فضل التوسع والاستفاضة في الأبواب والمعالجة .
أراء القابسي التربوية : تحدث في رسالته عن تعليم الصبيان من حيث أغراضه ومناهجه وطرق تدريسه وأماكنه ومراحله ، وبعض الأحكام الخاصة بالمعلم ، وقد تناول في رسالته فضل تعلم القرآن وتعليمه ، وهو بهذا يشترك مع ابن سحنون، بل أنه ينقل نفس الأحاديث النبوية إلا أنه يتوسع في الكلام.
يجعل من تعليم القرآن غرضًا هامًّا لتعليم الصبيان ، فالصلاة لا تتم إلا بقراءة شيء من القرآن ، وهو يتفق مع غيره من علماء المسلمين في أن الغرض الأول من تعليم الصبيان هو معرفة الدين علمًا وعملاً ، أو نظرًا وتطبيقًا وممارسة .
وجوب تعليم الصبيان : ويتعرض القابسي لقضية لم ترد عند ابن سحنون،وهي قضية القول بضرورة
تعليم جميع الصبيان ، فتعليمهم واجب وجوبًا شرعيًّا ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ؛ لأن التعليم شرط لمعرفة القرآن والعبادات ، وهكذا نجد بذور فكرة التعليم الإجباري الإلزامي عند القابسي ، وقد كان صريحًا كما كان جريئًا فيها .
وقد استقر هذا المبدأ عند علماء المسلمين فيما بعد عندما أصبح طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وتقتضي ضرورة تعليم الصبيان أن يكون الوالد مكلفًا بتعليم ابنه بنفسه فإن لم يستطع فعليه أن يرسله لتلقي العلم بالأجر، فإذا لم يكن قادرًا على ذلك ؛ قام بها المحسنون ونحوهم ، وهكذا يتحقق تعليم كل المسلمين بصرف النظر عن الغني أو الفقير .
تعليم البنت حقٌّ : يعترف القابسي بحق البنت في التعليم انطلاقًا من أن التكاليف الدينية واجبة على الرجل والمرأة ، إلا أنه ذهب إلى عدم الخلط بين الصبيان والإناث ، وهو مبدأ سبق أن أكده ابن سحنون لاعتبارات أخلاقية ، وينبغي أن تُعلَّم البنت ما فيه صلاحها ويبعدها عن الفتنة .
منهج الدِّراسة : يذهب القابسي إلى أن الغاية الدينية هي التي تحدد العلوم التي يدرسها الصبيان ، وأول هذه العلوم : حفظ القرآن وقراءته وكتابته ونطقه وتجويده ، وتعليم الحساب والمواد الأخرى -في نظره- ليس بشرط لازم ، وهو بهذا أيضًا يتفق مع ابن سحنون .
الدين أصل الأخلاق : يعتبر القابسي الدين أصل الأخلاق فالدين أساس التربية الخلقية في الإسلام ؛ وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سئل عن الإحسان فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك " ، ويكون اكتساب الأخلاق عن طريق التعليم والقدوة ؛ ولذلك كانت سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذات فائدة تعليمية خلقية عظيمة ، قال تعالى : " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ " سورة الأحزاب : 21
الفضائل والرذائل : وقد نبه القابسي إلى أثر تكوين العادة في اكتساب الفضائل لدى الإنسان ؛ ولذا
يوصي المعلم بتوجيه الصبيان إلى العادات الحسنة وإبعادهم عن العادات الرذيلة ، وأول الصفات الطيبة التي يتحلى بها الصبيان في نظره ، الطاعة وهي ليست واجبة عليهم نحو المعلم فحسب ، بل هي واجبة نحو الله والرسول وأولي الأمر كما جاء في القرآن الكريم : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ " سورة النساء : 59 .
ومن الصفات الطيبة النظام : فالفوضى مفسدة للصبيان ، والتحلي بالنظام خير ما يعود الإنسان على الطاعة والنظام ؛ ولذا فالمعلم مطالب بتعليمها للصبيان باعتبارها أصل الفضائل وعصمة من الرذائل .
الرفق بالصبيان : قد أقر القابسي مبدأ عقاب الصبيان ، لكنه يترفق معهم تمشيًا مع روح الإسلام التي تتسم بالرحمة والعفو ، وبحيث بأن يكون المعلم رفيقًا بطالبه عادلًا في عقابه ، من الرفق ألا يبادر المعلم إلى العقاب إذا أخطأ الطفل ، وإنما ينبه مرة بعد أخرى فإذا لم ينتصح لجأ إلى العقاب ، وقد نهى القابسي عن استخدام أسلوب الحرمان من الطعام والشراب في العقاب .
ونهى المعلم عن ضرب الصبيان في حالة الغضب حتى لا يكون ضرب أولاد المسلمين للانتقام ، وأشار القابسي إلى اتباع أسلوب الترغيب والترهيب في معاملة الصبيان .


أقر الضرب كعقوبة ولكن اشترط لها شروط .
من أهمها ما يلي :
1- لا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب ، أن يكون العقاب على قدر الذنب .
2- أن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث ويستأذن ولي الأمر فيما زاد عن ذلك .
3- أن يقوم المعلم بالضرب بنفسه ولا يوكله لواحد من الصبيان .
4- أن يكون الضرب على الرجلين ويتجنب الضرب على الوجه والرأس أو الأماكن الحساسة من الجسم.
5- أن آلة الضرب هي الدرة أو الفلقة ، ويجب أن يكون عود الدرة رطبًا مأمونًا .
وهذه نفس الشروط تقريبًا التي أشار إليها ابن سحنون من قبل .
نظام الدِّراسة : إن نظام الدراسة التي أشار إليه القابسي يقوم على أساس الدراسة طول أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة والنصف الثاني من يوم الخميس ، ويخصص مساء الأربعاء وأول يوم الخميس للمراجعة والتدقيق من جانب المعلم للصبيان ، وتكون الدراسة في أول النهار حتى الضحى مخصصة للقرآن الكريم ، ومن الضحى إلى الظهر لتعليم الكتابة ، وعند الظهر ينصرف التلاميذ لتناول الغذاء ، ثم يعودون بعد صلاة الظهر ؛ حيث يدرس الصبيان فيما يتبقى من نهار بقية العلوم كالنحو والحساب والشعر ، وهو يتفق في كثير من هذه الأمور مع ابن سحنون .
النهي عن تعليم غير المسلمين : يتفق القابسي مع ابن سحنون في النهي عن تعليم غير المسلمين
في الكتاتيب والنهي أيضًا عن تعليم أبناء المسلمين في المدارس النصرانية ومن الواضح الأساس الذي بني عليه هذا النهي .
المعلم : اقتصر القابسي في رسالته على الكلام عن معلمي الكتاتيب الذين يتصلون بأولاد العامة وذاع عنهم الحمق . ، ولعل هذه الوصمة لحقت بمعلمي الصبية من جراء العناصر الوضعية التي اشتغلت بالمهنة ، فلم تكن هناك شروط يسمح للمعلم بناء عليها بمزاولة المهنة ، ولكن كان الأمر يعتمد على الشعور بالقدرة فمن آنس في نفسه المقدرة على التعليم جاز له ذلك .
وقد اشترط القابسي في المعلم معرفة القرآن والنحو والشعر وأيام العرب إلى جانب شخصيته الدينية وسمعته الطيبة ، وهو بهذا يتفق مع ابن سحنون ويتفق معه أيضًا في مطالبة المعلم بعدم الانشغال عن تعليم الصبيان ، وعدم طلب الهدايا منهم ، ونحو ذلك .
وواضح أوجه الاتفاق والشبه الكبير بين ما يقوله القابسي وما ذهب إليه ابن سحنون ، وكلاهما يتفقان أيضًا على أن يأخذ المعلم أجرًا نظير عمله ، وأعطى للمعلم سلطة كبيرة ، ولكنه حمّل المعلم المسئولية والنتيجة النهائية لعمله ، ولهذا صح محاسبة المعلم على التقصير في أعماله .

Post a Comment

Previous Post Next Post