العقوبات التأديبية المقنعة

يلاحظعدد من المراقبين والمهتمين بشئون الوظيفة العامة ونظمها التأديبية أن هناك تراجعاً في عدد القضايا التي تعرض على سلطات التأديب خلال العقدين المنصرمين مقارنة بما كانت عليه الدعاوى المرفوعة في العقود التي سبقتها. وليست هذه الظاهرة قاصرة على أقطارنا العربية، بل تعدتها لعدد من الدول الأوروبية التي تأتي فرنسا وبلجيكا في مقدمتها. وقد شخص فيشر مخاطر التسيب الذي أدى إلى عدم محاسبة المقصرين والمخالفين من الموظفين تأديبياً إلا عندما تصل جرائمهم إلى حد الفضائح العامة (Public Scandals).ويرجع فيشر تهيب الرؤساء وترددهم في إحالة مرءوسيهم المخالفين والمذنبين للإجراءات التأديبية للأسباب التالية (Fisher, 1997, p. 2160 ):

           ‌أ-     خوفهم من إثارة المتاعب والمشاكل لأنفسهم ولإداراتهم والانشغال بإجراءات التحقيق والشهادة وما يترتب عليها من استنزاف الوقت والجهد.

        ‌ب-  خشيتهم من المتاعب والسلبيات التي تثيرها النقابات والاتحادات المهنية ومن ضغوطها التي تسلطها على المحاكم أو اللجان واحتمالات تأجيجها للصراع معهم.

         ‌ج-   تجنب الإثارة التي تؤججها الصحافة ووسائل الإعلام والقوى الضاغطة والشلل والتجمعات اللارسمية التي تهّول وتبالغ عند عرض القضايا الصغيرة للترويج أحياناً ولتحقيق السبق الصحفي أحياناً أخرى.

          ‌د-    وأخيراً خشية الرؤساء وتحسبهم لما تقوم به الرقابة القضائية والجهات المختصة بالنظر في التظلمات ودعاوى الاستئناف والتمييز ومراجعة الأحكام الأولية، والتي كثيراً ما تتخذ مواقف متشددة من فرض العقوبات وتتخذ قراراتها بإلغائها أو التعويض عنها ولو بعد مرور سنوات طويلة.

وبسببهذه المخاوف المتعددة والإجراءات المعقدة التي تمر بها العقوبات التأديبية وطول المدة التي تستغرقها فإن عدداً من الإدارات ومن الرؤساء صاروا يتجهون نحو ما يسمى بالعقوبات المقنعة. فحين تجد السلطات الإدارية أن شخصاً ما لم يعد صالحاً للبقاء في وظيفته الحالية أو في قسمه أو مدينته لكثرة الشكاوى والدعاوى المرفوعة عنه والتي قد يؤدي التحقيق فيها إلى عرقلة الأعمال، أو أن إثباتها لن يكون سهلاً، لكنها بنفس الوقت تقتنع وبدون أي شك بصحة ما ينسب له وفقاً لتقارير من رؤسائه أو مرءوسيه, عندها تلجأ إلى نقله المبطن بالعقوبة. وقرارات النقل كما هو معلوم من صلاحيات الإدارة ولا يجوز للموظف أن يتظلم منها لدى القضاء مطالباً بإلغائها أو التعويض عنها. وهناك من يسمي هذه الإجراءات بالتأديب الوقائي أو المانع (Preventive Discipline) وآخرونيسمونه بالتأديب التصحيحي (Corrective Discipline)(Werther,& Davis, 1996. p. 516)

 وقد يكون النقللمكان بعيد عن سكنه الحالي أو لوظيفة أصعب وأكثر خطراً أو أقل هيبة ومكانة أو أقل احتكاكاً بالجمهور مما يجعله عقوبة تأديبية مقنعة أو مبطنة. مثل ذلك نقل الموظف أو الموظفة من شعبة العلاقات العامة لشعبة المخازن أو نقل مدير من قسم شئون الموظفين إلى قسم الخدمات أو نقله من مركزه في العاصمة لإحدى المدن أو الضواحي البعيدة عنها. وينبغي ألا يفهم من هذا أن كل عمليات النقل إنما  هيعقوبات مبطنة, فالذي يقرر أو يحسم ذلك هو شعور الموظف ودوافع الإدارة نحو عملية النقل إن كانت عقاباً أو إجراء تتطلبه المصلحة العامة أو ظروف المنظمة.

كماتلجأ الإدارات إلى إشعار الموظف بوجوب تقديم طلبه بالإحالة على التقاعد أو على المعاش كما يسمى في بعض الأقطار على الرغم من عدم بلوغه السن القانوني، تلافيا لفصله أو لإحالته على التقاعد بقرار تأديبي. وفي ذلك مصلحة للموظف ولجهة عمله معاً إن كانت الأسباب الداعية لذلك متوفرة وأكيدة.

وحينيكون الموظف المراد التخلص منه حديث التعيين أو ليست له الخدمة الكافية لإحالته للتقاعد يتم إشعاره بوجوب تقديم استقالته طواعية, وإلا فسيعرض نفسه للإجراءات التأديبية, على أن يعلل استقالته بأسباب صحية أو عائلية ليبعد عن الإدارة شبهة التأديب, ومن الأسباب غير المباشرة للتخلص من الموظفين بطرق مبطنة إلغاء الوظيفة من الكادر ضمن إجراءات إعادة التنظيم أو التطوير. وعندها يعتبر الموظف الذي ألغيت وظيفته بحكم المنتهية خدمته في بعض النظم. أو أن الإدارة تعد كشفا بالزائدين عن حاجتها فتضمنها أسماء الموظفين الذين لا ترغب ببقائهم.

وهناكمن يدرج هذه التصرفات ضمن إساءة استخدام الإدارة لصلاحياتها فيحذر من التمادي والتوسع في اعتمادها. كما أنها تفتح الأبواب واسعة أمام البعض للتخلص ممن لا يرتاحون لهم من ذوي الكفاءات والخبرات ويخشون من منافستهم ولو بعد سنوات, وحين تنكشف الحقائق وراء هذه القرارات للمتضررين منها للتظلم من هذا التعسف, وبسبب هذه المخاوف والتحفظات فإن عددا ًمن المنظمات التابعة للقطاع الخاص والمختلط قد ذهبت بعيداً بدعوتها إلى عدم وضع أية قواعد أو نصوص تتعلق بالتأديب لا في النظم ولا في الأدلة التنظيمية لكي يكون الأمن الوظيفي مطمئناً للعاملين ويكون التأديب مجرد استثناء (Noe, etal, 2000, p. 163).

Post a Comment

Previous Post Next Post