وسائل طرق حلول تسوية المنازعات الدولية في القانون الدولي:
أعتمد القانون الدولي قواعد فقهية يمكن الرجوع اليها في حل المنازعات الحدودية أو غيرها.والمنازعات الحدودية كغيرها من المنازعات الدولية لها طرق معينة يتم الرجوع اليها عند تسويتها , وقد أختلفت النظرة الدولية في حل المنازعات الحدودية في وقتنا الحاضر نتيجة لتطور العلاقات الدولية التي انعكست بصورة ايجابية في ايجاد قواعد قانونية لحلها, ويمكن القول ان هذه القواعد القانونية قد أصبحت الزامية بحيث ألزمت المجتمع الدولي اتباعها لحل أي نزاع ينشب بين دوله المختلفة. وقد كانت النزاعات في الزمن الماضي لا سيما في الامبراطوريات القديمة تلجأ في حلها الى طرق الاكراه وذلك بالرجوع الى استخدام القوة المسلحة, كما انه لا توجد في السابق قواعد تنظم علاقات الدول فيما بينها.

أما في ظل تطور القانون الدولي أصبح من الصعوبة استخدام القوة في فض المنازعات, لا سيما في تطورأسلحة القتال المختلفة وما تخلفه من تبعات قد تلحق الضرر بكلا الدولتين المتنازعتين. لذلك سعى المجتمع الدولي الى وضع مبادئ تنظم العلاقات الدولية, وتكون كفيلة بأنهاء الخلافات والنزاعات سواء كانت حدودية أوغيرها والتي  يمكن الرجوع من خلالها الي أية تسوية كانت.

والمواثيق الدولية التي نصت على تسوية المنازعات السلمية كثيرة, كأتفاقية لاهاي لسنة 1907, وعهد العصبة سنة 1919, وميثاق لوكارنو سنة 1925, وميثاق التحكيم العام لسنة 1928 (1).

أما ميثاق الأمم المتحدة فقد ألزم الدول الاعضاء حسب الفقرة(3) من المادة (2)التي نصت على " فض منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن الدولي عرضة للخطر ".
وقد نصت الفقرة (4) من المادة(2) من الميثاق أيضا على " الامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الاراضي او الاستقلال السياسي لأية دولة على أي وجه آخر لا يتفق وقصد الامم المتحدة ". أما المادة (33) منه فقد نصت  " على أنه  يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر ان يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية, أو أن يلجأوا الى الوكالات والتنظيمات الاقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها "(2).


 
(1) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص579
(2)  أنظر الفقرة(3- 4) من المادة (2), وكذلك المادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة

وباستقراء تلك الوسائل يمكن تصنيفها الى:
1 – الوسائل الدبلوماسية.
2 – الوسائل القضائية .
1- الوسائل الدبلوماسية:
انها الطريقة الودية في تسوية المنازعات, لذلك تلعب إرادة الدول فيهما دورا كبيرا لان المنازعات اذا كانت سياسية لا يمكن حلها الا بطرق دبلوماسية أو سياسية يراعي فيها بالدرجة الأولى التوفيق بين مختلف المصالح المتضاربة, على عكس المنازعات القانونية التي تحال عادة الى التحكيم أو القضاء الدوليين.
كما أن  حل المنازعات بالطرق السلمية يحفظ حقوق الدول ويصونها من الاعتداء .كما يوفر أجواء أكثر ايجابية لحلها دون ما اضرار بحقوق الغير . لذلك تتميز الوسائل الدبلوماسية انها لا تمارس الا برضا واتفاق الأطراف المتنازعة التي تقبل نتائجها طواعية,  ويمكن دراستها على النحو الاتي:
أولا– المفاوضات :
تعتبر هذه الطريقة من اقدم الطرق في تسوية المنازعات وأكثرها انتشارا واقلها تعقيدا. حيث انها تقوم على الاتصالات المباشرة بين الدولتين المتنازعتين بغية تسوية النزاع القائم بينهما عن طريق اتفاق مباشر. وكثيرا ما تشترط االمعاهدات الدولية الخاصة بالتسوية السلمية للمنازعات , على الدول المتنازعة أستنفاد أسلوب المفاوضات الدبلوماسية قبل أن يكون في امكانها اللجوء الى أسلوب التسوية القانونية عن طريق التحكيم والقضاء.
والمقصود بالمفاوضات هي تبادل الآراء بين الدولتين المتنازعتين حول مشكلة النزاع بينهما لغرض الوصول الى حلول مقبولة من االطرفين المتنازعين لغرض تسوية النزاع القائم بينهما (1).
وعادة تجري المفاوضات بين وزراء خارجية الأطراف المتنازعة والمبعوثين الدبلوماسيين, أو من يوكل عنهم القيام بهذه المهمة. أو يتم تعيين مندوبين خاصين بالمفاوضة , حسب طبيعة النزاع , وتكون المفاوضات شفهية أو مكتوبة, أو بالجمع بين الطريقتين وتتميز هذه الطريقة بصفتي المرونة والكتمان , وتتوقف فائدتها على الروح التي تسود المفاوضات , الأمر الذي يتطلب تكافؤ القوى السياسية المتنازعة(2). فالدول المتفاوضة التي لا تتمتع بقوة سياسية متعادلة لا سيما الكبرى منها حيث تطغي على الدول الصغرى وتفرض عليها إرادتها.


 
(1)   أبو هيف, د. علي صادق, القانون الدولي العام, مكتبة المعارف, الاسكندرية , 1971, ص636
(2) روسو, شارل, القانون الدولي العام, مطابع الأهلية, بيروت , 1982, ص285
 وتعد المفاوضات المباشرة في الوقت الحاضر الأسلوب الامثل في حل المنازعات الدولية, لأن الدول المتنازعة هي وحدها قادرة على فهم ظروف النزاع وملابساته. كما ان المفاوضات المباشرة لا تتطلب وجود طرف ثالث قد تكون له مصالح معينة في تسوية النزاع بطريقة تتلائم مع مصالحه(1). ومن الامثلة الحديثة للمنازعات الدولية التي تمت تسويتها عن طريق المفاوضة " المفاوضات التي أدت الى اتفاق فرنسا وممثلي الثورة الجزائرية على منح الجزائر استقلالها عام 1961 .. والمفاوضات التي جرت بين سورية ولبنان في شهر اب 1973 لحل المشاكل العالقة بين البلدين"(2).

كما ان المعاهدات الدولية كثيرا ما تشترط استنفاد الطرق الدبلوماسية ( المفاوضات) قبل امكانها اللجوء الى تسوية تحكيمية أو قضائية عن طريق محكمة دولية, وقد بحثت محكمة العدل الدولية الدائمة هذا المبدأ بشئ من التفصيل في " قضية امتيازات مافروماتيس الفلسطينية (من ناحية الاختصاص القضائي) لعام 1924"  وقررت أنه :
" قبل أن يكون في الامكان اخضاع أي نزاع قانوني , يجب تحديد موضوعه بوضوح بواسطة المفاوضات الدبلوماسية"(3).وقد أعترفت المحكمة بأن في كل قضية يجب ان تكون هناك مفاوضات كافية قد سبقت عرض النزاع على المحكمة. ولكنها لن تتجاهل اراء الدول المعنية التي هي أفضل وضع للحكم على الاسباب السياسية التي قد تمنع تسوية منازعة معينة بالمفاوضات الدبلوماسية .

وفي قضية حق المرور المقدمة من البرتغال ضد الهند أمام محكمة العدل الدولية والمتعلقة بحق المرور في الاراضي الهندية , أثارت الهند الاعتراض التالي: " ان البرتغال قبل ان تتقدم بادعائها في هذه القضية, لم تراع قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي , تتطلب منها القيام باجراء المفاوضات الدبلوماسية والاستمرار فيها الى الحد الذي لا يعود فيه من المفيد متابعتها"(4).




 
 (1) الفتلاوي, د. سهيل, المنازعات الدولية, مطبعة دار القادسية , بغداد, 1985, ص50
(2) منتدى كلية الحقوق/ جامعةالمنصورة, طرق التسوية السلمية للمنازعات الدولية
www.f-law.net/law/threads
(3- 4) المصدر السابق




ثانيا – المساعي الحميدة :
ويقصد به عمل ودي تقوم به دولة ثالثة محايدة أو صديقة للطرفين بقصد التخفيف من حدة الخلاف بين الدولتين المتنازعتين وايجاد جو أكثر ملائمة لاستئناف المفاوضات والوصول الى تفاهم بينهما(1).

وتهدف المساعي الحميدة إلى تفادي النزاع المسلح , وحله حلا سلميا , مثال ذلك تسوية المنازعات الاقليمية مابين فرنسا وتايلند بفضل المساعي الحميدة التي قامت بها الولايات المتحدة عام 1946(2).
وكذلك المساعي الحميدة الرامية الى انهاء حرب قائمة, مثال ذلك انهاء الحرب التي نشبت بين اندونيسيا وهولاندا, والتي تجددت بينهما في 20 تموز 1948عقب الحرب العالمية الثانية بفضل المساعي الحميدة التي قامت بها الولايات المتحدة الامريكية(3).

كما أنه لا يوجد التزام على أية دولة أن تقدم خدماتها بهذا الخصوص, وأيضا لا يوجد التزام على أي طرف في نزاع ما قبول عرض المساعي الحميدة, لذلك الطرف الثالث لا بد له من الحصول على موافقة طرفي النزاع قبل قيامه ببذل مساعيه الحميدة,عندها يسمح له القيام بمحاولة جمع طرفي النزاع مع بعضهما, بحيث يجعل من الممكن لهما التوصل الى حل ملائم للنزاع, ويتم ذلك بأن يقابل كلا من طرفي النزاع على انفراد, ومن النادر أن يحضر الطرف الثالث اجتماعا مشتركا, لكن عليه أن يبذل مساعيه الحميدة ويحاول أن يخلق مناخ يوافق فيه الطرفان المتنازعان على اجراء المفاوضات المباشرة بينهما (4).







 
(1) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص584
(2) المصدر السابق
(3) روسو شارل, مصدر سابق, ص286
(4) منتدى كلية الحقوق, مصدر سابق



وقد لعبت المساعي الحميدة في تسوية المنازعات الحدودية بين الدول دورا فاعلا في عودة الهدوء ونزع فتيل التوتر, وكان للمساعي الحميدة التي بذلتها الحكومة الأردنية عن طريق وزير خارجيتها عام 1969 بين العراق وايران بشأن النزاع الذي قام بينهما نتيجة قيام الحكومة الايرانية بالغاء معاهدة الحدود العراقية- الايرانية المعقودة في 4 تموز لازلة التوتر الذي كان قائما بينهما على الحدود(1).

والمساعي الحميدة ربما لم يحالفها النجاح في أكثر الأحوال, فيكون نصيبها أحيانا الفشل لا سيما اذا أصطدمت بالتشدد في كلا مواقف الطرفين المتنازعين أو أحدهما, ومن هذه المساعي على سبيل المثال التي لم توفق في انجاح مهمتها(لجنة المساعي الحميدة الأسلامية ) التي تشكلت نتيجة اجتماع القمة لمنظمة المؤتمر الاسلامي في الطائف عام 1981. وقد بذلت هذه اللجنة جهودها الرامية الى وضع حد للحرب العراقية – الايرانية التي نشبت جراء نزاع الحدود بين البلدين عام 1980لكنها لم توفق(2).

ثالثا- الوساطة:
ان مفهوم الوساطة يشير الى قيام جهة أو طرف دولي معين بمحاولة التوفيق بين أطراف
   النزاع, ليس فقط من خلال جمعهم على مائدة المفاوضات كما هو الحال بالنسبة للمساعي الحميدة, وانما المشاركة في تقديم المقترحات التي تكون من شأنها المساهمة في التوصل الى حل وسط مقبول من جانب الأطراف المتنازعة. 
    
اذن الوساطة هي عمل ودي تقوم به دولة ثالثة أو منظمة دولية أو اقليمية من أجل حل نزاعات قائم بين       دولتين أو أكثر عن طريق الاشتراك بالمفاوضات التي تتم بين الطرفين المتنازعين, لتقريب وجهات النظر بينهما ووضع حلول مناسبة لحلها (3) . وايضا المشاركة في تقديم المقترحات التي يكون من شأنها المساهمة في التوصل الى حل وسط مقبول من جانب هذه الاطراف المتنازعة, كما يلاحظ ان الوساطة تفضل في أحوال  كثيرة " المفاوضات" مع أستخدام الوسيط الضغوط والاغراءات لأطراف النزاع للوصول الى حل سلمي يرضي الطرفين المتنازعين(4).



 
(1) توفيق, د. سعد حقي, مبادئ العلاقات الدولية, العاتك لصناعة الكتاب,بغداد,  ط4 ,2009 ,ص361
(2) منتدى كلية الحقوق, مصدر سابق
(3) الغانم, د. محمد, مبادئ القانون الدولي, مطبعة النهضة, ط3, القاهرة, 1963, ص613
(4) منتدى كلية الحقوق, مصدر سابق
وتختلف الوساطة عن المساعي الحميدة , هو أن الطرف الثالث الذي يقوم بالمساعي الحميدة يكتفي بتقريب وجهات النظر بين الدولتين المتنازعتين, وحثهما على أستئناف المفاوضات بينهما لتسوية النزاع من دون أن يشترك هو في ذلك. في حين أن الدولة أو الطرف الثالث الذي يقوم بالوساطة في المفاوضات التي تتم بين الطرفين المتنازعين لها أن تقترح الحلول التي تراها مناسبة في تسوية النزاع اذا تأكدت أن هذه المقترحات تساعد أطراف النزاع على التوصل الى نتائج مقبولة(1).
 كما لا يوجد التزام على أية دولة في أن تقدم وساطتها,  وأنما هي تقوم بذلك بملىء  ارادتها كما هو الحال في المساعي الحميدة. كذلك فان أيا من الطرفين المتنازعين أو كلاهما حر في قبول أو رفض عرض بلوساطة. كما أن النتيجة التي أنتهت اليها الوساطة غير ملزمة لطرفي النزاع ولا يمكن فرضها عليهما, لأن أقتراحات الوسيط هي مجرد توصيات , وتنتهي مهمة الوسيط حينما تتم تسوية المنازعات , أو حينما يقرر أحد الطرفين أو الوسيط أن الاقتراحات المقدمة غير مقبولة (2).
والوساطة من صفاتها أنها أختيارية , وقد توخت اتفاقية " لاهاي" لعامي 1899 و 1907 تنظيم الوساطة واعتبارها مجرد مشورة غير إلزامية سواء تمت عفويا, أم بناء على طلب أحدى الدول المتنازعة, ونصت أيضا على أن الوساطة لا تعتبر بحد ذاتها عملا غير ودي, وأنه يحق للدولة اعادة عرض وساطتها رغم رفضها أول مرة (3).
كما أن الدول المتنازعة حرة في قبول الوساطة أو رفضها, ولا يعتبر القبول أو الرفض مخالفة لأحكام القانون الدولي رغم أن رفض الوساطة من قبل طرفي النزاع أو كلاهما يعتبر عملا غير ودي, وهناك عدة أمثلة على رفض الوساطة منها:
رفضت هولندا وساطة الصين عام 1947 , وذلك في النزاع الذي نشب بينها وبين اندونيسيا . كذلك رفض المغرب وساطة الجمهورية العربية المتحدة في حل النزاع الذي قام بينها وبين الجزائر في نهاية عام 1963 بخصوص الحدود بين الدولتين (4).




 
(1) Jean, Pierre Cot, International Conciliation, Europe Publications, London, 1972, p.32
(2) منتدى كلية الحقوق, مصدر سابق
(3) المصدر السابق
(4) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص585



والوساطة اختيارية كأصل كما بينا, لكن قد تكون اجبارية في احيان اخرى, اذ وجد نص في المادة الثامنة من معاهدة باريس المعقودة في 30 اذار 1856, حيث فرضت  على الدول الاطراف مبدأ الوساطة لتذليل العقبات التي تنشأ بين تركيا وأحدى دول الوفاق الأوربي (1).

 ومن تطبيقات العمل الدولي فيما يتعلق بدور الوساطة كوسيلة سلمية لتسوية منازعات الحدود : ففي عام 1950 عين مجلس الأمن قاضيا استرالياهو السيد اوين ديكسون, وعضو مجلس الشيوخ الامريكي السابق فرانك كراهام, والدبلوماسي السويدي جارتك على التوالي وسطاء لحل النزاع بين الهند وباكستان حول كشمير (2).
وقد اخذ " ميثاق جامعة الدول العربية " بأسلوب الوساطة لحل النزاعات التي تنشب بين الدول العربية ,  وقد جاء في المادة الخامسة منه " ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة, وبين دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما " (3).

واستنادا لهذه المادة يحق لمجلس الجامعة السعي الى ايجاد تسوية للنزاع بين دولتين من دول الجامعة, أو بين دولة من دول الجامعة ودولة اخرى, عن طريق الاشتراك في بحث اسبابه والعمل على تقريب وجهات النظر بينهما لأجل التوفيق بين وجهات نظرهما بشأن موضوع  النزاع, ولا يجوز للدول المتنازعة أن ترفض هذه الوساطة ولكن موافقتها ضرورية لقبول قراراتها من قبل الاطراف المتنازعة, كما ان موافقتها ضرورية اذا كانت احدى الدول المتنازعة ليست عضوا في الجامعة.






 
(1) العطية, د. عصام , مصدر سابق, 586
(2) روسو,  شارل , مصدر سابق, 264- 265
(3) منتدى كلية الحقوق, مصدر سابق



رابعا- التحقيق :
ويقصد به الاتفاق على تشكيل لجنة دولية تتولى مهمة جمع وفحص وتحقيق الوقائع المتنازع عليها, وكتابتها في تقرير من دون أن تتخذ قرار في ذلك, بل يترك أمر الحكم عليها الى الاطراف المتنازعة (1).
أن معظم المنازعات الدولية تنطوي على عدم قدرة الطرفين المتنازعين على الاتفاق على الوقائع, أو عدم رغبتهما في ذلك. مما حدى بالدول في أواخر القرن التاسع عشر الى عقد عدد من الاتفاقيات الثنائية التي تقضي بتشكيل لجان خاصة بتقصي الحقائق ومهمتها رفع تقرير عن الوقائع المتنازع عليها الى الطرفين المعنيين. وهذا ما اقترحته روسيا عام 1899 في مؤتمر لاهاي الاول (2).
فالغرض من التحقيق أصلا هو تحديد الوقائع المادية والنقاط المختلف عليها بين الفريقين المتنازعين  تاركا لهم استخلاص النتائج التي تنشأ عنه أما بصورة مباشرة ويكون ذلك عن طريق المفاوضة , وأما بصورة غير مباشرة ويكون ذلك عن طريق التحكيم. وقد أوضحت المادة التاسعة من اتفاقية لاهاي لسنة 1907 نه اذا كان النزاع خلافا على وقائع معينة يتعين على طرفي النزاع ان يعينا لجنة تحقيق دولية تقوم بفحص وقائع الخلاف والتحقق منها (3).
كما أنه لا يوجد التزام على أية دولة في اللجوء الى اسلوب التحقيق , لكن لجنة التحقيق تتشكل بمقتضى اتفاق خاص بين الدولتين المتنازعتين تعرض كلاهما الوقائع المطلوب على اللجنة التي تقوم بالتحقيق فيها, كما أن النتائج التي تتوصل اليها لجنة التحقيق في تقريرها غير ملزمة لطرفي النزاع ولا يمكن فرضها عليهما(4).








 
 (1) Mans Kelsen, Principles of International Law, Third printing, Rinehart& Company Inc., New York, 1959, p.363
(2) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص 587
(3) أنظر المادة (9) من اتفاقية لاهاي لسنة 1907 المتعلقة بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية.
(4) منتدى كلية الحقوق, مصدر سابق
وأول قضية طبقت فيها طريقة التحقيق هي قضية " دوكر بنك "والحادثة وقعت نتيجة لمهاجمة الأسطول الروسي في 20/ 10/ 1904 لزوارق صيد يابانية في بحر الشمال عن طريق الخطأ, على أساس أنها زوارق يابانية مسلحة. فتألفت لجنة تحقيق وعقدت لها أول اجتماع في باريس برئاسة الأميرال الفرنسي فورنيه, ثم أصدرت تقريرها بشأن الحادث في 26/ 2/ 1905 , وبموجبه وافقت روسيا على دفع تعويضات لبريطانيا نتيجة للأضرار التي لحقت بسفنها(1).
كذلك استعملت طريقة التحقيق في قضية الباخرة الهولندية ( توبانسيا ) التي غرقت في بحر الشمال عام 1916 , وقد أدعت هولندا ان الباخرة هوجمت من قبل غواصة المانية, بينما زعمت المانيا أن الباخرة أصطدمت بلغم حربي مزروع في البحر, وقد شكلت لجنة للتحقيق في الحادث عام 1921 باتفاق الطرفين, وقد توصلت لجنة التحقيق الى صحة ما أدعته هولندا من غرق السفينة كان نتيجة اصابتها بقذيفة من غواصة المانية, فوافقت المانيا على دفع تعويضات الى هولندا بسبب غرق السفينة(2).
وقد تم اللجوء الى التحقيق أيضا في قضية الموصل التي طالبت فيها تركيا بعد توقف الحرب العالمية الاولى, فعين مجلس عصبة الامم لجنتي تحقيق, الأولى في 30 /9/ 1924 والثانية في 24/ 9 / 1925 , وعهد اليها بمهمة جمع المعلومات والحقائق التي تساعد في تعيين الحدود العراقية – التركية(3).
لقد تم تنظيم قواعد التحقيق في اتفاقية لاهاي الخاصة بالطرق السلمية لتسوية المنازعات الدولية عام 1907, وذلك بتحديد بعض الامور مثل مكان الاجتماع , واللغات المستعملة , وسد الشواغرفي اللجان, وسمحت الاتفاقية للدول المتنازعة بارسال مندوبين خاصين من قبلها لتمثيلها والعمل كوسطاء بين هذه الدول ولجان التحقيق. هذا بالإضافة الى النص على استدعاء الشهود اما من قبل الدول المتنازعة أو من قبل اللجنة نفسها. كما تقوم لجان التحقيق في مهمتها في جلسات سرية, وتتخذ قراراتها باغلبية الآراء ويتلى القرار في جلسة علنية بحضور ممثلي الطرفين المتنازعين, ثم يسلم لكل واحد منهما نسخة منه, ويقتصر التقرير على سرد الواقائع المطلوب التحقيق فيها, ويؤخذ على نظام التحقيق انه ليس الزاميا, وأنه ليس ذا صفة دائمة أي ان لجان التحقيق ليست دائمة(4).






 
(1) العطية, د. عصام, مصدر سابق,  ص588
(2) Percy E. Gorbott, Law in a diplomacy, Princeton University press, United States of America, 1959, p.203
(3) روسو,  شارل ,مصدر سابق, ص288
(4) أبو هيف , د.علي صادق, مصدر سابق, ص643
مما حدى بالولايات المتحدة الامريكية الى عقد ثلاثين اتفاقية مع الدول الاوربية وغيرها أطلق عليها أسم معاهدات بريان Bryan)) لمعالجة المأخذ التي تعيب مبدأ التحقيق, وقد ألزمت هذه المعاهدات أي نزاع يتعذر تسويته بالطرق السلمية أن يعرض على لجان تحقيق دائمة, كما حرمت هذه المعاهدات على الطرفين المتنازعين اعلان الحرب او القيام بالاعمال العدوانية في اثناء التحقيق الى ان تقدم اللجنة تقريرها(1)

خامسا- التوفيق :
وهو أحدى الطرق الحديثة في تسوية المنازعات الدولية, حيث دخل التعامل الدولي في أعقاب الحرب العالمية الاولى, وهو يشترك مع التحقيق في بعض الخصائص الا أنه يتميز عنه حيث تقوم لجانه التحقيقية بالإطلاع على الوقائع واقتراح الحلول المناسبة لها(2).

وأسلوب التوفيق أو المصالحة يعني عرض نزاع معين على لجنة توفيق بقصد تمحيص جميع أوجه النزاع واقتراح حل على الطرفين المتنازعين, كما أن طرفي النزاع أو كلاهما حر في قبول أو رفض أقتراحات اللجنة . وكما عليه الحال في الوساطة يمكن للموفقين أن يجتمعوا بالطرفين مجتمعين أو منفردين(3).

في الحقيقة أن طريقة التوفيق في حل المنازعات الدولية حديثة العهد, حيث دخلت في التعامل الدولي في نهاية الحرب العالمية الاولى, وقد أكدت عصبة الأمم على طريقة التوفيق في فض المنازعات الدولية, لذلك ورد النص على تشكيل العشرات من لجان التوفيق في اتفاقيات ثنائية أو جماعية, فمثال ذلك على المعاهدات الثنائية  كمعاهدة (لوكارنوا ) التي أبرمت في 16 أكتوبر 1925, أو تكون في الحالة الثانية جماعية مثل معاهدة (البلطيق ) عام 1925 , وميثاق التحكيم العام 1928(4).





 
(1) العطية , د.عصام, مصدر سابق, ص589-590
(2) أبو هيف, د. علي صادق, مصدر سابق, ص645
(3) منتدى كلية الحقوق,مصدر سابق
(4)العطية , د.عصام, مصدر سابق, 591
ان استخدام طريقة التوفيق تمثل ظاهرة نادرة الحدوث على المسرح الدولي, وربما كان السبب في ذلك أن الدول تفضل اللجوء الى الأساليب الأخرى لتسوية المنازعات على أسلوب التوفيق, لأنها تنص على اصدار قرارات أو أحكلم ملزمة ( تحكيم قضاء ) بدلا من ترك الحرية لكل طرف في رفض مجرد اقتراحات أو توصيات كما هو عليه الحال في أسلوب لجان التوفيق. فمهمة لجان التوفيق تنحصر في دراسة النزاع وتقديم الاقتراحات الى الاطراف المتنازعة التي تراها كفيلة في فض النزاع بالطرق السلمية, الا ان هذه المقترحات ليس لها صفة الالزام(1).

وعلى رغم كثرة المعاهدات التي نصت على التوفيق فيما بين سنتي 1919- 1939 فأن هذه الطريقة لم تستخدم الا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. حيث عقدت بعد انتهاء الحرب عدة معاهدات متعددة الاطراف تشير الى طريقة التوفيق, منها ميثاق بوكوتا سنة 1948, ومعاهدة بروكسل سنة 1948. كما عرضت نزاعات متعددة تم بحثها من قبل لجان التوفيق منها: النزاع الدنيماركي – البلجيكي عام 1952, ونزاعان بين فرنسا وسويسرا عام 1955, ونزاع بين اليونان وايطاليا عام 1956. ومن الامثلة البارزة على نجاح أسلوب التوفيق, اعادة بعض الاراضي الكمبودية التي منحتها فرنسا الى تايلند عام 1941 بناء على وساطة اليابان. وقد أدت المساعي الحميدة التي بذلتها بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية الى عرض النزاع على لجنة توفيق تألفت وفقا لأحكام الاتفاق الموقع في واشنطن بتاريخ 17 كانون الثاني / ديسمبر 1946  واذعان تايلند لمضمون التقرير القاضي بضرورة اعادة الاراضي الممنوحة.
أما في معاهدات الصلح التي عقدت بين الحلفاء وايطاليا عام 1947 فالتوفيق قد تحول الى تحكيم في هذه المعاهدات , والتي نصت على انشاء لجان للتوفيق تكون قراراتها الزامية لدول الاطراف(2).

Post a Comment

Previous Post Next Post