الأشياء المسكوت عنها النافعة نفعا محضا أو الأشياء المسكوت عنها ونفعها أكثر من ضررها فما حكمها بعد ورود الشرع ؟ خلاف أيضاً على قولين :
ج---- هناك من يقول بالتحريم .
õ وهنا من يقول بالإباحة .

   فمن يقول بالتحريم يستصحب القول الذي قال به قبل ورود الشرع ويأتي بالأدلة العقلية التي أثبت بها أن حكم الأشياء قبل ورود الشرع التحريم .
ç ومن يقول أن حكم الأشياء قبل ورود الشرع الإباحة استدل كما قلنا بأدلة عقلية لكن بعد ورود الشرع ينبغي أن نلتفت أكثر إلى الأدلة الشرعية ، والأدلة الشرعية التي جاءت من السمع من القرآن والسنة تدل في الجملة على أن حكم الأشياء بعد ورود الشرع الإباحة، فمنها قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" وجه الاستدلال أن الله تعالى امتن علينا بأن خلق لنا جميع ما في الأرض ، وأبلغ وجوه الامتنان إباحة الانتفاع ، فيكون الانتفاع بجميع ما في الأرض مباحا لنا إلا ما نهانا عنه الشرع ، ونحن نتكلم هنا عن الأشياء المسكوت عنها ، تقريبا لوجه الاستدلال بهذه الآية نحن نقول إذا أراد شخص أن يمتن على شخص في الغالب انه يمتن عليه بشيء قد أباح له أن يعمله أو أن ينتفع به ، وفي الغالب انه لا يمتن عليه بشيء منعه منه ، فلا يقول في اليوم الفلاني منعتك من كذا ، هذه ليست منة ، المنة في الغالب تكون في الشيء المباح للشخص ، فيقول في اليوم الفلاني أعطيتك كذا أو منحتك كذا ، فبالإباحة تكون المنة ، ففي الآية امتنان ، ابلغ وجوه الامتنان أن يباح الانتفاع بجميع ما في الأرض ، فيكون جميع ما في الأرض مباحا إلا ما حرمه الشرع أو ما أخرجناه من المسألة أي ما كان ضرره محضا أو غالبا.


 أيضاً الأشياء المسكوت عنها وحكمها الإباحة بعد ورود الشرع قوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أُهل لغير الله به" ووجه الاستدلال هنا إن الله سبحانه ذكر المحرمات من المطعومات ، وذكر هذه المحرمات على وجه الاستثناء لأنه قال ( إلا أن يكون ميتة ) ، والقاعدة اللغوية إن الاستثناء لا يكون إلا من أصل على خلاف المستثنى ، والمستثنى هنا هو المطعومات المحرمة فيكون الأصل الذي على خلاف هو المطعومات المباحة ، إذا يكون الأصل فيما عدا هذه المحرمات هو الإباحة ، لأن الله عدد لنا المحرمات من المطعومات بطريقة الاستثناء ، فدل على أن ما عدا هذه المعدودات من المطعومات المحرمة يكون على خلاف حكمها ، وحكم هذه هو التحريم فيكون حكم ما عداها هو الإباحة ، ولو كان العكس هو الحاصل وهو إن الأصل في الأشياء هو التحريم لعد الله الأشياء المباحة لنا وعد ما عداها هو محرم ، ولكن الحاصل هنا هو العكس.

 من الأدلة الدالة أيضاً على أن الأصل في الأشياء قبل ورود الأشياء هو الإباحة قوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق" وجه الاستدلال أن الله تعالى قد أنكر على من حرم أشياء بدون دليل صادر عن الله تعالى ، فدل هذا على أن مالم يأت بشأنه دليل يحرمه يكون حكمه الإباحة ، فينكر الله تعالى في هذه الآية على من يأتي ويحرم زينة من زينات الدنيا أو أمراً طيبا من طيبات الدنيا بدون دليل صريح من الله يقول ان هذا امر محرم ، فدل هذا على ان ما جاء بشأنه دليل يحرمه يكون محرما ، وما لم يأت بشأنه دليل ينبغي أن لا نحرمه لأن الله تعالى ينكر على من يحرم بدون دليل ، لم ينكر على من يبيح ، فيدل على ان ما جاء بشأنه دليل يحرمه فهو حرام ، أما ما لم يأت شيء بشأنه يدل على تحريمه فهو مباح لأن الله تعالى قد أنكر على من حرم ، فدل على ان حكم الأشياء المسكوت عنها التي لم يرد شيء يدل على تحريمها الإباحة سواء كانت من الأعيان أو الأفعال المنتفع بها.

هذا فيما يتعلق بالأدلة من القرآن ، هناك أدلة أخرى ولكنها تأتي في معنى هذه الآيات
 من السنة أنه قد ورد عندنا مجموعة من الأحاديث وهي تفيد معنى واحدا بجملتها وهو أن ما سُكت عن حكمه في الشرع فهو على الإباحة وعلى العفو ، هذه الأحاديث اختلفت ألفاظها لكن معناها واحد وهي جملة من الأحاديث

 منها قوله عليه الصلاة والسلام : ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ) أخرجه الدارقطني و البيهقي في السنن الكبرى
 أيضاً من الأدلة قول النبي : عليه الصلاة والسلام : (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وحسنه النووي ، أيضاً من الأحاديث أن النبي × لما سُئل عن الجبن والسمن والفراء قال : ( الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) ، لو لاحظنا الأحاديث

 سنجد في الأول أنه قال وما سكت عنه فهو عفو ، لأنه قسم الأمور في الشرع إلى ثلاثة ، أولاً ما ورد فيها التحليل فيكون حكمها حلال ، ثم قال ما حرم فهو حرام ، ثم الثالث ما سكت عنه فهذا عفو ، وعفو معناه مباح
لأنه قال فاقبلوا من الله عافيته ، وهذا توجيه إلى الأخذ بالإباحة في الأمور المسكوت عنها وهذا نص صريح في هذا المقام ، في الحديث الثاني قسم النبي الأمور التي جاءت من الله إلى فرائض لا ينبغي تضييعها ، وحرمات لا ينبغي انتهاكها ، وحدود لا ينبغي اعتداؤها ، ثم قال أمور سكت عنها من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ، فالتوجيه إلى عدم البحث عنها يدل على جواز العمل بها ، ولو كان الأخذ بها محرما لبين النبي ذلك وقال فلا تقدموا عليها ، وإنما قال لا تبحثوا عنها كي لا تحرم عليكم بدلالة أدلة أخرى في هذا المقام ،
 أيضاً الحديث الثالث الذي سُئل فيه النبي عن السمن و الجبن والفراء ، قسم النبي هذه الأمور إلى ثلاثة فوضع قاعدة عامة يُستفاد منها في الأمور الشرعية المنصوص عليها وغير المنصوص عليها ، فقال الحلال ما احل الله في كتابه فهذا قسم ، ثم قال والحرام ما حرم الله في كتابه ، ثم قال وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ويدخل في هذه الجزئية الجبن والسمن والفراء ، فهذه أمور مسكوت عنها شرعا فهو مما عفا عنه ،

 والعفو هنا هو تقريبا في استعمالات العلماء في درجة مرادفة للمباح فيكون حكمها إذا الإباحة وقيدناها بالتي لم يثبت ضررها أو يكون ضررها اكثر من نفعها انما نتكلم عن الأشياء التي تكون نافعه نفعا محضا ، فعندنا جملة نصوص في القرآن والسنة تدل دلالة صريحة على ان الأشياء المسكوت عنها بعد ورود الشرع يكون حكمها الإباحة ، والمقصود بثبوت النفع والضرر هنا بحسب نظر العالم المجتهد أو الشخص العادي ، فالعالم المجتهد أو الشخص العادي متى ما أراد على ان يقدم على أمر لم يرد فيه نص بإباحته أو تحريمه نصا صريحا

في هذه الحالة متى ما تمحض له أن هذا الأمر نافع نفعا محضا فإنه يقدم عليه لأن حكمه الإباحة بناء على هذه الأدلة ، وان كان فيه ضرر فيوازن ان كان نفعه اكثر من ضرره فأيضا يبقى حكمه الإباحة ، أما أن كان ضرره أكثر من نفعه فلا يقدم عليه لأننا أخرجناه من هذه القاعدة.

فثبت حقيقة من عموم الأدلة الواردة إن حكم الأفعال والأعيان المنتفع بها بعد ورود الشرع هو الإباحة بناء على هذه الأدلة الشرعية في هذا المقام .

س---  أنتم قلتم بأن عندنا بعد ورود الشرع قولان قول بالإباحة وعندنا قول بالتحريم وهو الذي قلنا أنه يستصحب الأدلة العقلية التي قال بها قبل ورود الشرع ، بقي عندنا القول بالتوقف ما مصيره بعد ورود الشرع ؟
ج---- الحقيقة انه بعد ورود الشرع لا تناقض ولا تعارض بين القول بالإباحة والتوقف ، لأن الخلاف بين القائلين بالإباحة والتوقف خلاف لفظي بعد ورود الشرع وليس خلافا معنويا ، فإن القائل بالتوقف موافق بالحقيقة للقائل بالإباحة بعد ورود الشرع ، لأن مراد القائلين بالتوقف أنه لا يُثاب على الامتناع من الإقدام على هذا الشيء ولا يأثم بفعل هذا الشيء ، هذا معنى القول بالتوقف في هذا المقام ، فلا عقاب على احد فيما يفعله ولا ثواب على شيء لو فعله من الأشياء المسكوت عنها ، ومراد القائلين بالإباحة بعد ورود الشرع انه لا حرج في الفعل والترك ، ومعنى هذا أن القول بالإباحة يرادف القول بالتوقف فيما بعد ورود الشرع فيكون إذا لا خلاف بين القائلين بالإباحة والقائلين بالتوقف بعد ورود الشرع إذا فُسر التوقف بهذا القول ، وهذا هو اختيار إمام الحرمين في كتابه البرهان ، والغزالي في كتابه المستصفى , والآمدي في كتابه الإحكام ، وابو يعلى في كتابه العدة ، وموافق أيضاً لما المح اليه ابن قدامة في كتابه روضة الناظر .

س----- ما فائدة بحثنا لهذه المسألة بعد ورود الشرع ؟
ج------ فائدة وثمرة الكلام في هذه المسألة هي النظر في حكم الأشياء المسكوت عنها بعد ورود الشرع هل حكمها التحريم أو حكمها الإباحة في هذا المقام ، الحقيقة بناء على القول بالإباحة والقول الراجح وهو القول الذي عضدته الأدلة الشرعية بعد ورود الشرع يكون حكم الأفعال أو الأعيان المسكوت عنها بعد ورود الشرع هو الإباحة ، و من يقول بالحظر أو التحريم قبل ورود الشرع يقول أيضاً الأشياء المسكوت عنها حكمها التحريم بعد ورود الشرع ولا يجوز الإقدام عليها ، وبناء على هذا لدينا أمثلة تنبني على هذين النظرين بعد ورود الشرع ، مثلا الحيوان المشكل امره ، نحن نعلم ان عندنا حيوانات ورد الشرع بإباحتها صراحة بأسمائها وأعيانها ، وعندنا حيوانات قد نص الشرع على تحريمها إما بعينها وإما بوصف يوضح حقيقتها ، وعندنا حيوانات لم تُعرف في وقت التشريع اما باسمها أو بعينها ، وحينئذ ننظر في حكمها ، هل حكمها الإباحة بحيث انه يجوز للشخص ان يقدم على اكلها ام لا يجوز ؟ هذا نسميه بالحيوان المشكل امره ، مثل الزرافة ليس هناك نص يدل على تحريمها ولا إباحتها ،فيبقى امرها مشكلا هل حكمها الإباحة أو حكمها التحريم بناء على القول الراجح الذي عضدته الادلة الشرعية يكون حكمها الإباحة فيباح أكلها ، ولذلك يقول السيوطي تفريعا في هذه المسألة : ومنها مسألة الزرافة ، نقل عن السبكي قال : المختار حل أكلها لأن الأصل الإباحة .

هذا مثال اول يتفرع على مسألة نبحثها هنا ، فرع ومثال آخر وهو النبات الذي جُهلت سميته وجُهل ضرره فيكون حكمه الإباحة بناء على القول الراجح هنا ، وهناك من يقول بان حكمه التحريم ، لكن النبات الذي ظهر ضرره واتضحت سميته فهذا حكمه على التحريم ولو لم يرد بشأنه نص من الشرع ، ولكن هناك نبات لم يظهر ضرره ولا سميته فنقول حكمه الإباحة بناء على القول الراجح الذي عضدته الأدلة الشرعية ، هناك من يقول بالتحريم بناء على القول الثاني الوارد في المسألة ، ولعل أوضح مثال ما يُعرف بمادة التبغ الذي يُصنع منه الدخان ، نعلم انه في بداية ظهوره علماء الإسلام لم يطلعوا على ضرره فهو نبات مجهول سميته وضرره ، ولذلك وجدنا من العلماء في بداية ظهور هذا النبات ومعرفته في بلاد الإسلام من يقول بإباحته ، لأنه بناء على ان الأصل في الأشياء الإباحة ولا تُنكر هذه الفتوى في وقتها ، ولكن مع تطور الابحاث العلمية ووضوح النتيجة وهو انه ثبت ان ضرره محض أو في اقل الاحوال ضرره غالب ، فلا يتأتى هنا ان نقول ان حكمه الإباحة ، لأنه قد ثبت ضرره فيكون قد خرج عن قاعدتنا هذه فيكون حكمه التحريم ، من الأمثلة أيضاً لو دخل حمام برج شخص ، أي من حمام غيره ولكنه لم يعلم هل هذا الحمام مملوكا لغيره أو ليس مملوكا ، فإن لصاحب البرج ان يتصرف في هذا الحمام لأنه لا يعلم مالكه ، لأن الأصل في الأشياء الإباحة بناء على القول الراجح ، ومع ان هناك قول التحريم بناء على القول الثاني.

ومن الأمور التي تتخرج أيضاً على مسألة الأصل في الأشياء المسكوت عنها الإباحة بعد ورود الشرع ، كثير من الأمور والعقود والمعاملات المالية التي جدت في العصر الحديث ، فإنها إذا خلت ابتداء من أي محذور شرعي فإنه يكون حكمها الإباحة ، لأنه الأصل في الأشياء ، ولكن إذا اتضح أن فيها محذور شرعي فإن الأصل فيها التحريم ، لأن المحذور يعتبر في الشريعة من الأمور التي تبطل العقد أو المعاملة .
هذه جملة من المسائل التي تنبني على مسألة الأصل في الأشياء والخلاف فيها في هذا المقام ، وهذه جملة من الفروع الفقهية بيناها ليتضح المقال في هذا المقام ، طبعا قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة هناك ما يعارضها ، ليس كل الأشياء المسكوت عنها يكون حكمها الإباحة ، فهناك من يقول أن الأصل في الإبضاع التحريم ، والمقصود الإبضاع أمور النساء وما يتعلق بهن من الأنكحة ونحو ذلك ، فالأصل فيه التحريم حتى يثبت حلها بدليل قاطع ، ومنهم من يقول ان الأصل في الذبائح واللحوم التي لا تُعلم ذكاتها بوجه شرعي هو التحريم ، فيخرج هذين الأمرين من مسألة الأصل في الأشياء المسكوت عنها بعد ورود الشرع الإباحة ، فيقول أنها محرمة حتى يأتي دليل قاطع بالإباحة فحينئذ يجوز الإقدام عليه ، فجعل هذا مستثنى من قاعدة الأصل في الأشياء بعد ورود الشرع هو الإباحة ، وعلى كل حال هاتان القاعدتان ( الإبضاع واللحوم ) مما يعرض دراسته في مقرر القواعد الفقهية .
بهذا نختم الكلام على هذه القاعدة وبختام الكلام على هذه المسألة ، وبختام الكلام على مسألة حكم الأشياء المنتفع بها بعد ورود الشرع نختم الكلام على مسائل المباح وهو القسم الثالث من أقسام الحكم التكليفي ولذلك سيكون موضوع الحلقة الرابعة هو القسم الرابع وهو المكروه.
 

Post a Comment

Previous Post Next Post