التسوية القضائية من خلال اللجوء إلى محكمة العدل الدولية
        
يعد المبدأ الأساسي في الرجوع الى التسوية القضائية منوطا بأرادة الدولة التي يعد قبولها شرطا أساسيا في التسوية عن طريق القضاء الدولي, وقد أقرت هذا المبدأ محكمة العدل الدولية الدائمة في الحكم الذي أصدرته في قضية (ما فروماتس) في 30 اب 1924. وعندما تأسست محكمة العدل الدولية عام 1945 لتحل محل محكمة العدل الدولية الدائمة حكمت في قضية مضيق (كوروفو) الذي صدر في 28 اذار 1948 حين جاء في الحكم " أن اتفاق الأطراف يمنح الولاية للمحكمة"(1).
كان ذلك بعد أن تبين عجز نظام التحكيم الدولي في التسوية السلمية لحل المنازعات الدولية, وجدت الحاجة الى اقامة نظام قضائي يسهم بشكل فاعل في تسوية المنازعات الدولية. وكان عهد العصبة في مادته (14) التي نصت على تكليف مجلس العصبة باعداد مشروع نظام محكمة دولية لحل المنازعات الدولية, ونتيجة لذلك شكلت لجنة من عشرة فقهاء قدموا مشروعا للمحكمة وعرض على الجمعية العامه وأقرته في 13 كانون الأول 1920 وبموجب ذلك تشكلت محكمة العدل الدولية الدائمة, وكانت هذه المحكمة ( محكمة العدل الدولية الدائمة) تختص بالنظر في جميع المنازعات التي تنشب بين أعضاء العصبة, وكانت قراراتها نهائية ولا يجوز استئنافها, وقد حكمت المحكمة في كثير من القضايا ضمن اطار عصبة الأمم(2).









 
(1) روسو, شارل, مصدر سابق, ص297-313
(2) المصدر السابق, ص319

محكمة العدل الدولية:
تأسست محكمة العدل الدولية عام 1945 لتحل محل محكمة العدل الدولية الدائمة التي تأسست ضمن نطاق عصبة الأمم, وتعتبر محكمة العدل الدولية الاداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة(1).
تتكون هيئة المحكمة من قضاة مستقلين ينتخبون من الاشخاص ذوي الصفاة الخلقية العالية الحائزين في بلادهم على المؤهلات المطلوبة للتعين كقضاة, أو من المتشرعين المشهود لهم بالكفاءة في القانون الدولي, قد تتألف هيئة المحكمة من خمسة عشر قاضيا(2) . ومدة العضوية تسع سنوات يتم انتخابهم من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة في آن واحد(3).

لقد أشار ميثاق الامم المتحدة الى محكمة العدل الدولية في الفقرة (1) من المادة (7) التي نصت على ان " محكمة العدل الدولية هي أحد الاجهزة الرئيسية للأمم التحدة "(4). كما أكدت المادة (92) من الميثاق التي نصت على أن " محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتقوم بعملها وفق نظامها الاساسي الملحق بهذا الميثاق وهو مبني على النظام الاساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزء من هذا الميثاق "(5).

لقد اختلفت محكمة العدل الدولية عن محكمة العدل الدولية الدائمة من حيث نظامها الاساسي, فالثانية كان نظامها الاساسي مستقلا عن عهد العصبة, بينما  محكمة العدل الدولية أرتبطت بالمنظمة الدولية للأمم المتحدة.






 
(1) توفيق, د. سعد حقي , مصدر سابق, ص373
(2) المهنا, د. فخرس رشيد, مصدر سابق, ص 330
(3) توفيق, د . سعد حقي, مصدر سابق, ص
(4) أنظر الفقرة (1) من المادة (7) من الميثاق
(5) أنظر  المادة (92) من الميثاق
 و قيام محكمة العدل الدولية في فض المنازعات الدولية عن طريق القضاء الدولي لا يتعارض مع قيام محاكم اخرى تعرض عليها الدول منازعاتها, وقد جاء ذلك في المادة (95) من الميثاق التي نصت " ليس في هذا الميثاق ما يمنع اعضاء الأمم المتحدة من أن يعهدوا بحل ما ينشأ بينهم من خلاف الى محاكم أخرى بمقتضى اتفاقات قائمة من قبل أو يمكن أن تعقد بينهم في المستقبل "(1).

اختصاصات المحكمة:
لمحكمة العدل الدولية نوعان من الاختصاص, الاول افتائي والثاني قضائي ويطلق ايضا على الاختصاص الاول بالاختصاص الاستشاري. والاختصاص القضائي هو اصدار الاحكام التي تتصف بالصبغة القانونية في المنازعات التي تقع بين الدول. وأما الافتائي وهو قيام المحكمة بابداء الرأي في المسائل القانونية التي تعرض عليها من اجهزة الامم المتحدة الاخرى(1).
وقد تعرضت المواد من (34- 38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية لبيان نطاق الاختصاص القضائي, والمواد (65-68) من النظام الأساسي للمحكمة لبيان نظاق اختصاصها الافتائي(2) . والذي يهمنا في هذا الشأن هو الاختصاص القضائي للمحكمة لكونه يتعلق بتسوية المنازعات الدولية التي تعرض على المحكمة.

الاختصاص القضائي للمحكمة:
ان ولاية محكمة العدل الدولية في الأصل هي ولاية اختيارية وهي بذلك تختلف عن ولاية القضاء الداخلي, أي انها تشترط رضا جميع الاطراف المتنازعة بعرض أمر الخلاف عليها للنظر والفصل فيه, ومن الممكن أن يكون التراضي ضمنيا ولا يشترط ان يكون صريحا أو مكتوبا, والتعهد بتنفيذ الأحكام بحسن نية وقبول الالتزامات الواردة في المادة (4) من ميثاق الأمم المتحدة بتنفيذ احكام المحكمة, والحكم الذي تصدره المحكمة يكون ملزما لأطراف النزاع فقط(3).



 
(1) أنظر المادة ( 95 ) من الميثاق
(2) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص614
(3) أنظر المواد ( 34-38 ) و (65 – 68 ) من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية
أما اذا فقد التراضي بين الاطراف المتنازعة استحال عرض النزاع على المحكمة, وذلك وفقا لأحكام الفقرة (1) من المادة (36)(1). وقد تقبل الدول بملئ ارادتها بولاية محكمة العدل الدولية, والقبول يمكن أن تعبر عنه الدول بأساليب مختلفة(2):
1- أسلوب الاتفاقات, حيث يعقد بين الدول المتنازعة اتفاقية خاصة في احالة النزاع القائم بينهما الى محكمة العدل الدولية.
2- طريقة التعهد المسبق, حيث تتعهد الدولة بقبول ولاية محكمة العدل الدولية في فض المنازعات التي قد تنشب مستقبلا بينها وبين الدول الاخرى, وفي هذه الطريقة لا تحتاج الدولة الى اتفاق خاص بينها وبين الدول ذات الشأن .
3- عن طريق التصريح الاختياري, في هذه الطريقة يمكن لكل دولة طرف في النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية أن تعلن قبول ولاية المحكمة ازاء أية دولة أخرى تقبل التعهد نفسه.
والاختصاص القضائي للمحكمة يقتصر على المنازعات التي تقع بين الدول والتي لها الحق فقط ان تكون اطرافا في الدعاوي التي ترفع للمحكمة. والدول التي لها حق التقاضي في المحكمة هي:
1- الدول الاعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
2- الدول التي لم تكتسب عضوية الأمم المتحدة, لكنها انضمت الى النظام الأساسي للمحكمة وحسب شروط الجمعية العامة المادة (93) الفقرة (2).
3- الدول التي لم تكن اعضاء في الأمم المتحدة, ولا أعضاء في النظام الأساسي للمحكمة, وقد أشارت الفقرة (2) من المادة ( 35) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية(3).
كما ان لمحكمة العدل الدولية ولاية جبرية, أي أن المحكمة تنظر في النزاع المرفوع اليها بشكل الزامي, وبالنسبة الى الدول التي تعلن قبولها لها, حيث أوصت اللجنة القانونية الجمعية العامة بدعوة الدول الأعضاء لدراسة امكانية قبول الولاية الجبرية لمحكمة العدل الدولية(4).



 
(1) توفيق, د. سعد حقي, مصدر سابق, ص374
(2) السيد, د. رشاد عرف , مصدر سابق, 131
(3) أنظر نص الفقرة (2) من المادة (35) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية
(4) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص615

والولاية الجبرية للمحكمة تكون مقصورة على المنازعات القانونية التي تتعلق بالمسائل الاتية:(1)
1- تفسير معاهدة من المعاهدات.
2- أية مسألة من مسائل القانون الدولي.
3- تحقيق واقعة من الوقائع التي اذا اثبتت كان خرقا لالتزام دولي.
4- نوع التعويض المترتب على خرق التزام دولي ومدى هذا التعويض.
كما ان الولاية الجبرية لا تكون الا في حالتين:
1- وجود اتفاقيات سابقة بين الدول المتنازعة تنص على عرض النزاع الذي ينشب بين الطرفين على محكمة العدل الدولية.
2- اقرار الدول في قبول الولاية الالزامية لمحكمة العدل الدولية, حيث نصت الفقرة (2) من المادة (36) من النظام الأساسي للمحكمة على ان تقر الدولة صاحبة التصريح للمحكمة بولايتها في النظر في جميع المنازعات القانونية بينها وبين دولة تقبل نفس الالتزام(2).

القواعد التي تطبقها المحكمة في الحكم:
وتطبق المحكمة القواعد القانونية في المنازعات التي تفصل فيها طبقا لاحكام القانون الدولي حيث نصت المادة (38) من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية بأن تطبق المحكمة في أحكامها تبعا للمبادئ(3):
1- الاتفاقات الدولية العامة أو الخاصة التي تقرر قواعد معترف بها من الدول المتنازعة.
2- العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.
3- مبادئ القانون العامة التي اقرتها الأمم المتمدنة.
4- احكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم ويعتبر هذا او ذاك مصدرا احتياطيا لقواعد القانون.



 
(1) السيد , د. رشاد عارف, ص131
(1) الكاظ, د. صالح جواد, ولاية محكمة العدل الدولية الجبرية وموقف الدول النامية حيالها, مجلة المجمع العلمي العراقي , ج1 , مج33 , كانون الثاني , 1982, ص343
 (3) أنظر المادة (38) من النظام الأساسي للمحكمة
يجوز للمحكمة ان تفصل في القضية وفقا لمبادئ العدل والانصاف متى وافق اطراف الدعوى على ذلك. وفي ضوء نص المادة (38) من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية يجوز للمحكمة ان تفصل في القضية المعروضة عليها بتطبيق المبادئ المذكورة أعلاه وذلك من دون الألتزام بالقواعد القانونية المشار اليها سابقا, ومقتضى ذلك أن للمحكمة الحق في أن تستبعد قواعد القانون الوضعي التي تعتبرها غير عادلة, متى خولها الاطراف هذه السلطة ووافقت على ممارستها(3).

الاختصاص الشخصي للمحكمة:
لقد نصت الفقرة (1) من المادة (34) من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية    بأن" للدول وحدها الحق في ان تكون اطرافا في الدعاوي التي ترفع للمحكمة ". وهذا نص واضح على ان للمحكمة ولاية فقط على الدول التي لها حق التقاضي أمام المحكمة دون سائر اشخاص القانون الدولي الأخرى, وأستنادا لهذا المبدأ لا يجوز للأفراد والوحدات السياسية والشركات الأهلية التقاضي أمام المحكمة. وهكذا رفضت محكمة العدل الدولية الفصل في قضية شركة النفط البريطانية الايرانية بين بريطانيا وايران بقرارها الصادر في 22 تموز 1952 بعدم الاختصاص(2).
أما مساهمات محكمة العدل الدولية في حل العديد من المنازعات القانونية للفترة من عام 1946 حتى الأول من كانون الثاني 1983 حيث نظرت المحكمة في (48) نزاعا وأصدرت (42) حكما و (174) أمرا(3).







 
(1) السيد, د. رشاد عارف, مصدر سابق, 132
(2) العطية, د. عصام, مصدر سابق, ص616-617
(3) المصدر السابق, ص623

ومازالت المحكمة تنظر في المنازعات التي تعرضها عليها الدول بوصفها الشخص الوحيد من أشخاص القانون الدولي الذي يحق له ان يكون طرفا في الدعاوى التي ترفع للمحكمة، وينبغي الاشارة الى ان المحكمة تختص في النظر بالمنازعات القانونية متى ما كانت هذه المنازعات تتعلق بتفسير المعاهدات الدولية أو كانت تتعلق بأي مسألة من مسائل القانون الدولي ، أو بتحقيق واقعة يثبت أنها كانت خرقا لالتزام دولي أو المنازعات المتعلقة بنوع التعويض اذا ترتب هذا التعويض على خرق التزام دولي(1).

أخيراً لابد أن نشير إلى أن الحاجة تبقى ملحة إلى ايجاد السبل الكفيلة بزيادة فاعلية هذه المحكمة وتطوير أدائها بحيث تصبح قادرة على المساهمة في أيجاد الحلول اللازمة للمنازعات التي تطرح عليها وبما يؤمن المحافظة على الأمن والسلم الدوليين في ظل عالم اليوم حيث المصالح المتشابكة والمسائل المعقدة التي باتت تشكل أسبابا لمنازعات مستمرة ، ونرى ضرورة تعديل أسس نظام المحكمة واعطاء الحق للمنظمات الدولية في أن تكون  طرفا في الدعاوى التي ترفع للمحكمة ، واعطاء الحق للدول بمقاضاة المنظمات في حالة وجود نزاع بين دولة ومنظمة دولية يمتلك مواصفات النزاع القانوني .

Post a Comment

Previous Post Next Post